التنمية المستدامة

نشر في 14-01-2008
آخر تحديث 14-01-2008 | 00:00
 د. حسن حنفي

كل شروط التنمية المستدامة متوافرة في الوطن العربي من رؤوس للأموال الآتية من عوائد النفط، والعقول العربية القادرة على التنمية على مستوى أعلى الخبرات العالمية، والسواعد العربية والعمالة المهاجرة والخبرة التاريخية في الزراعة في مصر والسودان والعراق، والأسواق الشاسعة وملايين البشر للاستهلاك.

إذا كانت القضية الأولى في اليسار الإسلامي تحرير الأرض من الاحتلال، والثانية تحرير المواطن من القهر، والثالثة العدالة الاجتماعية ضد فقر الأغلبية وثراء الأقلية، والرابعة الوحدة ضد مخاطر التجزئة والتقسيم الطائفي المذهبي والعرقي، فإن القضية الخامسة هي التنمية المستدامة.

والمصطلح غربي، أُخذ من الدراسات التنموية الحديثة بعد صعود العالم الثالث إثر حركات التحرر الوطني، وأخذ مكان الصدارة، وأغلبية الأصوات في الأمم المتحدة، وثلثي سكان العالم. ولا يعني لفظ «التنمية» مجرد النمو الاقتصادي الكمّي أي تنمية الموارد، بل يعني أساساً التنمية البشرية أو التنمية الشاملة، فالإنسان هو الهدف الأول من التنمية، تنمية الإدراك والقدرات الذهنية والبواعث النفسية من أجل التوجه نحو الطبيعة، ووجود الإنسان في العالم، ويتم الفعل والإنتاج والعمل والكد والكدح والسيطرة على مظاهر الطبيعة من خلال التعرف على قوانينها.

والتنمية المستدامة هي التي تعتمد على نفسها وليس على المعونات الخارجية التي تنضب بالتوزيع من دون إيجاد وسائل للاستثمار وتحويلها من كم إلى كيف، من توزيع إلى إنتاج، وهي التنمية التي تولد نفسها بنفسها مثل التسيير الذاتي، وهي تنمية الإنتاج وليست تنمية الاستهلاك، وهي التي تحققت في ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية عن طريق مشروع مارشال، وفي اليابان لإعادة بنائها بعد تدميرها في الحرب، وفي كوريا الجنوبية وماليزيا والصين والهند، اعتماداً على القدرات الذاتية ووضع خطط للتنمية المستمرة بعد الدفعة الأولى.

والهدف من التنمية المستدامة تحرير الإرادة الوطنية من الاعتماد على الخارج، وعدم ارتهانها بالمعونات الأجنبية المشروطة بالدخول في أحلاف مع الدول المانحة أو إقامة قواعد عسكرية، برية وبحرية على أراضيها، فالطعام لا يستورد وإلا جاع الشعب في حالة الحصار، والأمة التي لا تأكل مما تنتج تظل أسيرة لمصادر طعامها، وأهمها القمح، فرغيف الخبز حاجة أساسية كالماء والهواء والتعليم والصحة والإسكان، تدعمه الدولة حتى تستطيع الطبقات الفقيرة شراءه بالأجور المحلية التي لا تستطيع مجاراة الأسعار العالمية.

وتدخل التنمية المستدامة ضمن إعمار الأرض وتأسيس العمران في مفهوم الأرض في القرآن الكريم، فالأرض خضراء وليست صفراء، تخضرّ من نزول الماء عليها «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً»، فالنبات الأخضر من فعل الطبيعة بنزول الماء على الأرض ومن فعل الإنسان بزراعة الصحراء، «فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا»، فالإنسان في زراعته الأرض يمتثل لأمر الله الذي ينزل الماء عليها لتصبح مخضرة، والأخضر ضد اليابس، يأكله ويحتويه، «وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ»، واللون الأخضر هو لون أرائك الجنّة «مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ»، ولون ثياب أهل الجنّة «عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ».

أما اللون الأصفر فهو لون سلبي، لون الجفاف والصحراء والهشيم الذي تذروه الرياح والذي يسهل اقتلاعه من الأرض «ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا»، وهو لون الريح العاتية التي تهب فلا تبقي ولا تذر «وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ»، وهو لون شرار النار «إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ، كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ»، هو لون الموت والضحية مثل بقرة بني إسرائيل «قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ»، وفي الثقافة الشعبية توحدت الثقافة العربية بالصحراء، فالتوحيد امتدادها اللانهائي، وأخلاقها التعاون والبر والتكافل، ورموزها الجمل والناي والخيمة.

ويستمر الحديث في صورة القرآن في التأكيد على أن اللون الأخضر هو لون الحياة المستمرة «لو جاء أحدكم ملك الموت وفي يده فسيلة فليغرسها». فالاخضرار فعل مستمر للإنسان من المهد إلى اللحد، وفي زيارة القبور يوضع العشب الأخضر، والزرع الأخضر ترحماً على الميت. فالحياة الخضراء مستمرة بعد الموت، وهو اللون المفضل عند الصوفية في عمائمهم وأعلامهم وشاراتهم وبيارقهم، والشيخ الخضر رمزهم وإمامهم، وهو اللون الذي آثرته العديد من الدول الإسلامية لأعلامها الوطنية رمزاً للأرض الخضراء، وهو اللون الذي يستعمل في الحياة السياسية مثل «المسيرة الخضراء» و«الكتاب الأخضر».

مهمة الإنسان في الطبيعة إذن السيطرة عليها وتسخير قوانينها لمصلحته، علاقة الإنسان بالأرض هي علاقة الفاعل بالمفعول، الزارع بالزرع، فقد خلق الكون كله لمصلحة الإنسان، فالأرض لفأسه، والماء لريه، ودوره زرع الأرض وتحويل الصحراء الصفراء إلى أرض خضراء، وإقامة السدود وبناء الجسور لحفظ المياه كما فعلت الملكة سبأ في تشييد سد مأرب. والإنسان قادر على استخراج الماء، كما فعل موسى حينما ضرب الصخر بعصاه فانفجرت منه العيون، وعندما سعت السيدة هاجر زوجة إبراهيم بين الصفا والمروة بحثا عن الماء ليشرب ولدها إسماعيل حتى لا يهلكا عطشا فانفجرت عين زمزم التي أصبحت في ما بعد من مناسك الحج.

ويرتبط مفهوم التنمية المستدامة ليس فقط بالطبيعة وتسخير قوانينها بل أيضا بمفهوم التقدم، وفعل «قدم» يعني في نفس الوقت القديم والتقدم والسبق «وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ»، وهو عكس التأخر «لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ»، والتنمية خير والسبق فيها فضيلة «فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ». وهو منافسة في التقدم «فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً». والسابقون هم الذين ينالون الفوز «وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ، أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ». ولفظ «سبق» أيضا مزدوج المعنى. يعني السبق إلى الأمام والسبق إلى الخلف، وهو ضد تصور آخر شائع يقوم على أن السلف خير من الخلف «فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ»، وأيضا «خير القرون قرني، ثم الذي يلونه» حيث يبدو التاريخ منهاراً، وأن السابقين خير من اللاحقين، وهو ضد الزمن وجوهره التقدم، وهي طبقات المؤرخين والمتكلمين والمفسرين والفقهاء.

إن كل شروط التنمية المستدامة متوافرة في الوطن العربي من رؤوس للأموال الآتية من عوائد النفط، والعقول العربية القادرة على التنمية على مستوى أعلى الخبرات العالمية، والسواعد العربية والعمالة المهاجرة والخبرة التاريخية في الزراعة في مصر والسودان والعراق، والأسواق الشاسعة وملايين البشر للاستهلاك. فلا يوجد ما يمنع من إقامة السوق العربية المشتركة القائمة على التكامل الاقتصادي.

وإذا كان العالم، كما يقال قرية واحدة، وكانت العولمة قانونه فإنه لا يحل أزمة الغذاء وأزمة المياه في العالم إلا التوجه نحو الطبيعة والسيطرة عليها، وتسخير قوانينها، ونمو الأرض لزراعتها وتحويلها من أرض صفراء قاحلة إلى أرض خضراء يانعة، والإنسان في العالم مصدر خير وليس عدماً، أتى من لا شيء وينتهي إلى لا شيء.

ولما كانت الشعوب الإسلامية باستثناء البعض مثل ماليزيا وتركيا وإيران ضمن الدول النامية، حينئذ يكون معنى التنمية للدول التي تخطط للتنمية المستدامة وليست الدول الوسطى بين الدول المتخلفة والمتقدمة... ويكون للتنمية معناها الدائم حتى عند الدول المتقدمة، فهي موقف الإنسان من الطبيعة كسيد لها ومسخر لقوانينها، وهي جانب من عملية التقدم الشاملة في الكون والتاريخ.

* كاتب مصري

back to top