النحّات اللبناني نعيم ضومط: أنا قريب روحيّاً من نحّاتي العصور القديمة والحديثة

نشر في 11-09-2007 | 00:00
آخر تحديث 11-09-2007 | 00:00

نعيم ضومط من نحاتي الطليعة في لبنان، درس فنّ النحت في معاهد روما المتخصصة منتصف ستينات القرن الماضي. هناك أطّلع على مدارس أوروبا الفنية النهضوية. كما ربط علاقات فنية مع الكثير من فناني إيطاليا المعاصرين واستوعب أساليب النحت المحدثة.

عرض في غير عاصمة ودولة عربية وأوروبية بينها: ايطاليا، المانيا، فرنسا، اليونان، الولايات المتحدة، الجزائر، السعودية، البحرين، الأردن. شارك في بينالات عربية في الاسكندرية وبغداد وسواهما. له أعمال نصبية في ساحات عامة وداخل مؤسسات أكاديمية وسياحية وعامة في لبنان وعواصم عربية وغربية...

رهيف نعيم ضومط، في الرسم والنحت على السواء. أنيق، متقشف في خطوطه، حنون في انعطاف حنايا منحوتاته، قويّ متمكّن من حركية شخوصه مع قدرة فائقة على انتزاع شحنة من التعبير كثيفة، بخطوط بسيطة شديدة النقاء. إنه شاعر المنحوتة البسيطة.

محترف معرض دائم وتفتيش مستمر في فن الإلماح رسماً ونحتاً، في مطلق الصمت، كأنه ينتمي الى جيل نسّاك الفن. والباقي ضجيج.

ذواقة النحت قلّة لأنه فن صعب والمنحوتة في حاجة إلى فضاء. أين جمهور النحت واقتنائه؟

إنهم قلة. لم يتعود الجمهور الواسع أن يشاهد نحتاً لغياب المتاحف. ساحاتنا العامة في الشوارع خالية تقريباً من النصب على عكس عواصم الغرب بعامة! ثمة ذواقة للنحت لكنهم قلة قياساً بذواقة الرسم والموسيقى.... المنحوتة لها رؤية خاصة تختلف عن اللوحة. في حين تتألف اللوحة من بعدين ثمة في المنحوتة ثلاثة أبعاد وتحتاج بالتالي الى فضاء ومساحة لرؤيتها من كل الزوايا. والأرجح أن المقتني لا تتوافر ربما في بيته تلك المساحة الضرورية لإبراز جمالية المنحوتة من حيث الإضاءة على كل الجهات، لذا يفضل اقتناء اللوحة.

أنت تدرّس في معاهد الفنون في جامعات لبنان. من هم طلابك؟ أي جيل من الفنانين اللبنانيين يمكن أن ننتظر في السنوات القادمة؟

طلاب عدد الفنون اليوم قليل. أكثرهم يتحول الى الرسم لأن النحت يتطلب جهداً جسدياً كبيراً وتركيزاً فكرياً كثيفاً، إضافة إلى وجوب توافر محترف مجهّز بمعدات النحت في الخشب والصخر وتقنيات المعادن. لكنها تتطلّب نفقات مادية قد لا تتوافر، من هنا ندرة الطلاب المتوجهين إلى النحت.

كرسام ونحات، يبدو جلياً في كثير من أعمال الرسم لديك وجود مشاريع نصب نحتية. هل في ذلك تعمّد؟

لا أعتقد أن نحاتاً أصيلاً لا يرسم فالرسم اساس المنحوتة في أعمالي النحتية تلاحظ تبسيطاً في الخط وهذا ليس مقصوداً. المنحوتة التي تكتمل من كل زواياها تبقى ناقصة. يقولون بضرورة الوصول الى حال من تزاوج المنحوتة. مع الهندسة البنائية. أنا أقول العكس، يجب أن يكون البناء منحوتة يصير البناء منحوتة مسكونة.

نسأل عن «وظيفة» الفن المدنية. والكلام هنا على دور الهندسة الجمالية في بناء البيوت والمدن؟

الهندسة جزء من هذه اللعبة الفنية الكبرى. لا يغيب عن بالنا أن هذه العمارات يبيت في داخلها الإنسان ومعه كل مقتنياته الغنية (نحت، رسم...). يفترض أن يتحلّى المهندس المعماري بحد معقول من الذوق والحس الفني.

المباني التي تشيَّد اليوم يتحكمَ الممّول، ويا للأسف الشديد، في شكلها. هنا «مشكلتنا» و{مشكلة» المهندس الذي ينفّذ رغبة صاحب العمارة. هذا من حيث المبدأ. حبّذا لو كان المهندسون فنانين ويتجاوب المالكون مع التصاميم الفنية للبيوت لتحولت مدننا إلى متاحف للنحت في الهواء الطلق. إنه حلم جميل. ثمة في مدن الغرب قوانين تسهر على تراث البنيان القديم وتصوّب البناء الحديث لكي يتناسب مع البيئة بشكل عام. هذا في الغرب.

درست الفنون في ايطاليا وعدت الى لبنان في سنوات طويلة. ماذا أنتج فيك هذا «الاصطدام» بحضارة أوروبا وفنونها طوال سنوات الدراسة؟

درست الفن الكلاسيكي في ايطاليا. من غير الممكن البدء بالفنون المعاصرة أو الحديثة بل بالأساس أو الأصل. أشبعت نفسي من الينابيع الكلاسيكية من خلال الدراسة وزيارة المتاحف التي تزخر بالروائع الخالدة التي تغطي مراحل أساسية من تطور الإبداعات الفنية الإنسانية عبر العصور الطويلة. فنون بلاد ما بين النهرين، مروراً بالرومان، الى مصر الفرعونية فاليونان إلى الفرس فالشرق الأقصى... الفنون التي أنجبتها تلك الحضارات العظيمة كان لا بد من دراستها أكاديمياً. ثم بدأت اشتغل على نفسي لاكتشاف ذاتي وما يمكن أن أعطي.

أين أنت اليوم في معرفة ذاتك من حيث هذه البساطة المعبّرة؟

أنا اليوم في مرحلة قصوى من اختزال الخطوط. صحيح. لكني في حالة حوار دائم مع نفسي ومع أعمالي. البساطة في عملي ليست هدفاً مقصوداً واعياً. إنها تهيمن على اعمالي عفواً.

لكنها بساطة تحريضية للناظر، وهي دافعة للأسئلة ومحركة للمخيلة؟

على المشاهد أن يحسّ العمل. لا أتمنى مثلاً أن يشبِّه ناظرٌ أيَّ عمل لي بعمل لسواي. أريده أن يفرح بجديد أمام عينيه. التبسيط في نحتي شبه تعرية فنية تماماً، مع احتفاظ المنحوتة بشخصيتها وفرادتها.

ماذا عن علاقتك «الإنسانية» بالمادة: الخشب الصخر، المعدن؟ أي حوار تقيم مع هذه المادة التي تتيح لك إخصابها لتتحول إلى عمل نحتي؟ ماذا عن ممانعة الحجر وحنان الخشب؟

لكل مادة أسلوبها وطرق معالجتها. أحب الحجر، ربما لأنني إبن الأرض. صحيح أنه بارد لكن التعامل معه سهل أكثر من الخشب! قد تعجب لهذا الكلام. مع الحجر أستطيع أن أقضم ما شئت وهو لا يخون. الخشب أمره مختلف تماماً، يمكن مثلاً أن تنسلخ منه قطعة فجأة حيث لا يجب، وتصعب المعالجة. هذا لا يحصل مع الصخر. ثمة نوع من الخشب يداني قساوة الصخر. خشب البوبنغا الأفريقي، الزهري اللون، يصعب النحت فيه وأحياناً ولفرط قساوته تتحطم عليه معدات النحت. لماذا اشتغل على هذا الخشب الكثيف؟ لأنه جميل اللون وممتع في المعالجة. يشبه الصخر والحوار ممتع مع هذه المادة الخشبية.

من النحات العالمي الذي تشعر بقرابته الروحية؟

أشعر بقرابة مع أي نحات. معاناتنا تكاد تكون مشتركة! أتخيل نحاتي العصور القديمة وظروف النحت وأدواته البدائية. من العهود البابلية الى الاشورية أو السومرية والفرعونية أو اليونانية والرومانية وصولاً الى عصور النهضة الأوروبية... دائماً كانت المعاناة كبيرة وعلى أكثر من صعيد. ميكيلانج مثلاً عانى الكثير ممن لم يفهموه، وممن أرادوه «غبّ الطلب» وبخدمة الحاكم. أشعر بقرابة روحية مع حضارة وفنون الإتروسكيين (شعب ظهر في القرن الثامن قبل الميلاد وبلغ ذروة تطوره في كل الميادين بين 610 و460 ق. م. في منطقة توسكانة الإيطالية). أحسّ بحوار دائم مع النحات العالمي الايطالي جاكو مانزو (توفي مطلع تسعينات القرن الماضي) الذي كلّف بنحتٍ بارز لباب المدخل الخامس لكاتدرائية مار بطرس في الفاتيكان. كما أشعر بعلاقة روحية مع قامات جياكوميتي (نحات عالمي سويسري (1901 ـ 1966 تميّز بمنحوتاته الموغلة في الارتفاع). وأحسّ بتقارب وتعاطف مع الفن الأسود (افريقيا) ولا أنسى علاقتي الفنية بالنحات الإيطالي الكبير مارينو ماريني. هنا أشدّد على أن القرابة الروحية التي سألتني عنها لا تعني على الإطلاق أن أعمالي متأثرة أو تشبه إبداعات جميع من ذكرت. السقوط أن تشبه سواك والخطر ألاَّ تشبه ذاتك. عندئذ يسقط الفن وتغيب الفرادة!

back to top