هل يتمدد الجامع في الشارع أم العكس؟ 3-3

نشر في 20-02-2008
آخر تحديث 20-02-2008 | 00:00
 د. مأمون فندي بما أنني لست عالم دين لا أستطيع الحديث في موضوع غطاء رأس المرأة أو وجهها، إلا من زاوية سياسة واجتماعية أو تاريخية، أو الحديث من زاوية متأمل في معمار الجسد، وبما أن الوزير تحدث عن المرأة وهو رجل سياسة، فلابد من الحديث عن سياسة الملابس عامة في مصر، بما يشمل الرجال والنساء.

وبداية لو نظرنا إلى الإعلانات المنتشرة في الشوارع لوجدنا أن جميعها في مستوى نظرنا، فلا تجد إعلانات في مستوى الوسط أو الأرجل أو الأقدام، إذن رأس الإنسان وفي كل الحضارات تقريبا كان ولايزال هو موضع اللوحة الإعلانية، سواء تاج الملك أو الملكة، أو طربوش الشيخ أو الباشا، أو قبعة الرجل أو المرأة في الغرب، أو غطاء رأس المرأة في الشرق أو عمامة الرجل في صعيد مصر، أو غترة وعقال الرجل في بلدان الخليج، وتزيين هذه النقطة العالية من الجسد بالزمرد في حالة مهراجا الهند أو الماس والياقوت في حالة ملكة بريطانيا، أو نوع القبعة وتصميمها في حالة السيدات الغربيات، جميعها رموز اجتماعية تدل على تميز لابس هذه العلامة طبقياً أو قبائلياً، إلى غير ذلك من نوعية التقسيمات الاجتماعية. وبعيداً عن أي تحليل أو تحريم ديني بقي رأس المرأة في بلاد الشرق، وكذلك رأس الرجل أيضا، كلوحة الإعلانات، تزال الإعلانات والرموز مع قدوم كل نظام جديد سياسياً كان أم اجتماعياً.

فأول ماقامت به ثورة كمال أتاتورك هو التعامل مع الرأس البشري لإعلان النظام الجديد، فمنع الطربوش ثم تلاه منع الحجاب، أي أنه تعامل مع رأس الرجل أولاً ثم تعامل مع رأس المرأة، ذلك لأن الرجل كان هو الأخطر، وفي نزع الطربوش تقليل لقامة الرجل على الأقل عشرة سنتيمترات.

والنقصان من قامة الرجل عمل سياسي واجتماعي يخضع الرجل لأدوات النظام الجديد، ولم يكن أتاتورك وحده الذي تعامل مع الملبس وتحديد حجم جسم الإنسان الجديد، الذي أصبح رمز الثورة.

فمثلا ماو في الصين فرض البدلة الزرقاء، وكانت الثورة الثقافية هي البداية في ثورة الملبس، أي ثورة على الجسد القديم، واستبداله بجسد حديث، أقل حجماً وأكثر خضوعاً، وحدث ذلك أيضاً مع الثورة المصرية التي ألغت الطربوش كذلك، وفي حالتنا في صعيد مصر كان ضرورياً على أي رجل يريد دخول أجهزة الدولة أو العمل في الخدمة المدنية أن يقبل مسألة تقليص الجسد طولاً وعرضاً، فكان أول الشروط أن يخلع الرجل عمامته، أي أن يتناقص طوله نحو عشرة سنتيمترات، كما في حالة طربوش أتاتورك، هذا من ناحية الطول، أما من ناحية العرض فكان عليه الخروج من جلبابه الواسع، الذي يحتل مساحة أكبر من الشارع أثناء المشي، إلى وضع جسده في بدلة إفرنجية تحدد ملامح جسده، وبذلك يتقلص حجم الرجل، من حالة مهيبة إلى حالة أشبه بالصورة الكاركاتيرية للرجل، وفي هذا التقليص للحجم أيضاً هناك حالة القبول والخضوع لسلطة من فرض هذه الوضعية الجديدة للجسد.

في بعض الأحيان حدث تقليص للعمامة من عمامة أهالي الصعيد والبدو، التي تشبه غطاء الرأس الكبير في السودان والهند، إلى عمامة رجل الأزهر الرقيقة جداً. لكن الأساس في عمامة الصعيدي البيضاء أو حتى حالة السودانيين والهنود، هو أن يكون على رأس الرجل قماش أبيض يكفي لأن يكون له كفنا، إذا ما مات في مكان غريب، والكفن هو القماش الأبيض الذي يلف به جسد الميت منذ الفراعنة حتى يومنا هذا.

إذن التغيير الذي حدث في العمامة لم يحدث بإزالتها تماماً في حالة إذا ما أراد الفرد أن يكون أفندياً مدنياً، بل يقلص حجم العمامة إذا أراد أن ينخرط في سلك الأزهر. إذن في كل هذه الحالات نحن نتعامل مع موضوع علاقة السلطة بالجسد الإنساني بمجمله أو برأس الإنسان، كأعلى نقطة في لوحة الإعلانات المتحركة، وهو جسد الإنسان، يشكلها لأغراض سياسية أو اجتماعية أو دينية أو حتى تجارية، إذا ما لاحظنا حجم الإعلانات على صدور لاعبي كرة القدم، في الملعب أو قبعات لاعبي التنس من ماريا شاربوفا إلى أندريا أغاسي... إلخ.

غطاء رأس المرأة أيضاً يمكن النظر إليه في هذا السياق، الذي أطلق عليه هنا سياسة الملابس، فمثلاً لبس المرأة التي نظر إليها الأستاذ فاروق حسني على أنها محجبة، وتتحرك إلى الوراء، أو هي تدافع عن نفسها بأنها محتشمة، فأستطيع أن أقول، من قـريتي اليوم، ومن مجموعة من حولها من القرى، إن حجاب تلك المرأة التي شاهدتها على الشاشة مع أهلي، والتي كانت محط حديث الوزير، قال عنها المشاهدون من حولي إن هذا غطاء رأس راقصات، وليس حشمة، إذ قالت واحدة «فين الحشمة، دي مرة (هكذا يقول جماعتنا عن المرأة) مش مضبوطة». لم أر ما قالته السيدة أنه إهانة لأخرى، ولكنها ترى مسألة غطاء الجسد من منظور لباس المرأة في الصعيد، وهو أقرب إلى لباس النساء الذي نراه على الشاشات لمناطق جنوب العراق، أو تنويعه على ما تلبسه السيدة فائزة رافسنجاني في إيران، أو لباس بعض نساء البادية في اليمن، إذن مسألة الحشمة بشكلها التقليدي هي محدودة بالمكان والزمان، فليس غطاء الرأس بشكله القاهري هو حشمة في الصعيد، كما أنه لم يكن قريباً من حشمة النساء في عهد الخديوي إسماعيل أو محمد علي باشا من قبله، وهنا لا أتحدث عن الحشمة كلباس للمرأة إنما كلباس للرجل أيضاً، فأنا على سبيل المثال، وكثير من أقراني لا يلبسون البدلة الغربية في القرية، لأنها لباس غير محتشم وفيه تقليل للرجولة أو على الأقل نظرة أهالي البلاد الأصليين لما يمثل رموز الرجولة. وجميعنا يحاول أن يتكيف مع الوضع الزماني والمكاني الذي يعيش فيه، حتى لا يسيء إلى من حوله أحياناً أو يحتفظ لنفسه بمكانة اجتماعية تضفي عليه احتراماً في سياق جديد.

* مدير برنامج الشرق الأوسط في المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية-IISS

back to top