حديقة الإنسان: زوسكند... غرابة النص والشخص!

نشر في 23-11-2007
آخر تحديث 23-11-2007 | 00:00
 أحمد مطر

يبدو أن نشر رواية العطر قد آذن بإقبال دنيا زوسكند، فإذا بالناشرين، الذين أشبعوه عناءً قبل نشرها، صاروا يفتشون في دفاتره القديمة عن أعماله، التي لم يحالفها الحظ بالرواج، ليقيموا لها وله مهرجانات حفاوة هائلة، برغم أن بعضها لا يتجاوز حجمه الثمانين صفحة.

الإبداعات التي ظهرت، حتى الآن، للكاتب الألماني باتريك زوسكند تتسم كلها بالغرابة، لكنها غرابة تخصه وحده، إنها لا تحمل أي صدى من غرابات كتابات المبدعين، الآخرين، بل هي تنعقد بمجملها على دراسة الوساوس والهواجس والمخاوف الإنسانية، والحفر عميقاً من أجل الكشف عن أدق تفاصيلها، ولهذا يبدو طبيعيا أن أعماله، على اختلاف مواضيعها، تشترك في كون أبطالها جميعا يعانون أمراضاً نفسية حادة وواضحة.

المؤكد أن شهرة زوسكند قد قامت، وستظل دائما، على روايته الرائعة (العطر)، وهي رواية صاعقة الغرابة، إذ ان مؤلفها فاجأ العالم بقدرة بطلها المسخ (غرينوي) على استخلاص العطر من الأجساد البشرية، لكن هذه الرواية، التي حفيت قدما زوسكند حتى وجد من ينشرها له، كانت، في الواقع، مفتاحاً لبوابة أعماله الأخرى التي لا تقل غرابة عنها.

في المأثور عن إقبال الدنيا وإدبارها، يقال إنها «إذا أقبلت باض الحمام على الوتد، وإن أدبرت بال الحمار على الأسد»، ويبدو أن نشر رواية العطر قد آذن بإقبال دنيا زوسكند، فإذا بالناشرين، الذين أشبعوه عناءً قبل نشرها، صاروا يفتشون في دفاتره القديمة عن أعماله التي لم يحالفها الحظ بالرواج، ليقيموا لها وله مهرجانات حفاوة هائلة، برغم أن بعضها لا يتجاوز حجمه الثمانين صفحة... وكل هذا يجري وهو عنهم وعن الشهرة في شغل، ذلك لأن زوسكند نفسه يبدو، بغرابة أطواره، وكأنه شخصية خارجة من كتبه، فقبل نشر «العطر»، التي تحولت إلى فيلم سينمائي، كان يعتمد في كسب قوته على تأليف النصوص الدرامية للتلفزيون، وقد ظل، على رغم الشهرة والحفاوة والكفاية المالية، عاكفا على مهنته الأصلية، ضارباً صفحاً عن إقامة أي علاقات عامة، أو إجراء أي حوار، أو مجاملة أي وسيلة إعلام. فلا حديث له مع صحافي، ولا صورة له في أي كتاب أو جريدة، وفوق ذلك فإن أحداً لا يعرف له عنواناً شخصياً يمكن مراسلته عليه، ولعله ما كان ليهتم بتحويل روايته إلى فيلم سينمائي لولا ولعه الأصلي بالدراما، فهو في هذا السياق مستمتع بعزلته تماما، وعازف حتى عن تحصيل الجوائز التي تقدم إليه، لأنه مؤمن جداً بأن لذة الإنجاز الإبداعي هي أكبر من كل جائزة على وجه الأرض، وهو من هذه الناحية يشبه الكاتب الجنوب افريقي (جي.إم. كويتزي) الحاصل على «نوبل»، وعلى «البوكر» مرتين، من حيث إقامة رواياته، وخاصة «العار»، في بؤرة الضوء الضجة، وإقامته هو نفسه في ظلال العزلة والسكون.

أول ما فزنا به، نتيجة حملة الناشرين التفتيشية في أوراق زوسكند، كان رواية الحمامة، التي ترجمت إلى العربية عن الألمانية مباشرة، وموضع الغرابة في هذه الرواية القصيرة، هو أنها برغم عادية بطلها (جوناثان نويل)، وواقعية مسرحها، وبساطة أحداثها، تقوم على عقدة غير مألوفة إطلاقا تمثلها «حمامة»... فتلك الحمامة تعصف بأمان «نويل» الموظف الخمسيني المحمل أصلا بعقد الصبا والشباب، وتفقده خصوصيته، وتحيل حياته الرتيبة إلى جحيم متصل، منذ رآها ذات صباح واقفة أمام باب شقته، تنطر إليه بفضول، ولا تتحرك من مكانها، الأمر الذي دعاه إلى إغلاق الباب والمكوث في الشقة خائفا، ثم مغادرة الشقة، بعد ذلك نهائياً، لتتحول الحمامة مع تقدم السرد إلى رعب حقيقي يتجاوز شخصية البطل ليصل إلينا نحن القراء برغم يقيننا من أن أمراً كهذا لا يمكن تحققه في الواقع!

ثم ان هذه الحمامة على ما يبدو «باضت على وتد» شهرة زوسكند، فأتحفنا الناشرون بعدها بعمل مسرحي له عنوانه «الكونتراباص»... كان منذ وقت تأليفه في مطلع ثمانينيات القرن الماضي، يعرض على المسارح الألمانية بنجاح ساحق، مما جعله من أكثر النصوص المسرحية تمثيلاً في ألمانيا، حتى أنه في موسم 1984 وحده، عرض أكثر من خمسمئة مرة بخمسة وعشرين إخراجاً مختلفاً!

وأذكر أنني بحثت عن نص «الكونتراباص» في جميع مكتبات لندن فلم أعثر عليه بعد نفاد طبعته الأولى، وحين طلبت من ولدي أن يشتري لي نسخة منه عن طريق موقع أمازون على الإنترنت، صعقني الثمن الذي طلبه مقتني النسخة المعروضة للبيع، إذ انه طلب منا دفع سبعمئة جنيه إسترليني بالتمام والكمال، وهو مبلغ أستطيع أن أشتري به أكثر من مئة كتاب!

ولذلك فإنني صرفت النظر عن الصفقة، مفضلا أن انتظر صدور طبعة جديدة من الكتاب، ولو طال الزمن، لكنني لم ألبث أن اكتشفت، ويا للعجب، أن نص المسرحية كان قد صدر في القاهرة بترجمة ممتازة من الألمانية إلى العربية أنجزها سمير جريس، فتيسر لي أن أحصل عليه بامتيازين، أولهما أنه بلغتي الأم، وثانيهما أن ثمنه لا يتجاوز واحداً في المئة من ثمن النسخة المعروضة للبيع من طبعتها الإنجليزية المنقرضة!

البطل الحقيقي في هذه المسرحية ليس العازف (وهو الشخصية الوحيدة في النص)، بل آلة «الكونتراباص»، والواقع أن العازف كان ضرورياً لاستنطاق تاريخ تلك الآلة، واستعراض مزاياها ومثالبها، خصوصاً أنه وإياها متلازمان كتوأمين سياميين، لكن العلاقة بينهما، تبدو، من وجهة نظره، مزيجاً غريباً من الاعتزاز الشديد والكراهية المطلقة!

قبل زوسكند لم يكن لأحد أن يدرك، بحس إنساني عال، مقدار الأهمية والغبن اللذين تحملهما معا تلك الآلة التي تجلس، مغمورة وشبه مهملة، في الصف السادس من الأوركسترا، مثل سيدة ضخمة وقور، في حين يجلس العازف، المغبون هو أيضا، من ورائها مثل زوج ضعيف الشخصية، يحيطها بذراعيه، ويرتب بيديه، تملقاً، أطراف شالها المنسرح، هذا مع أن تلك الآلة الضخمة ذات الصوت العميق، تعد من أساسيات الأوركسترا، حيث «لا يمكن لأي أوركسترا أن تعزف شيئا من دونها» كما يُعبر العازف في نص المسرحية!

وإذا كان زوسكند قد أنبأنا في «العطر» بطول بحثه واجتهاده في كل ما يتعلق بصناعة العطور، فإنه في «الكونتراباص» يبدو في غير حاجة إلى البحث المتعمق في ما يتصل بصناعة الموسيقى، لأن النص نفسه يبدي لنا أنه رجل ذو تجربة شخصية في هذا الحقل، والأمر الذي يعزز هذه الحقيقة يظهر لنا جلياً في قصته الغريبة الأخرى (حكاية السيد سومر) التي شملتها حملة التنقيب، ونُشرت بعد «الحمامة»، ففيها جزء طريف اقتضت القصة أن يكون «البيانو» بطله الحقيقي!

في هذه القصة الواقعة في ما يقرب من مائة صفحة، والمطرزة من بدايتها إلى نهايتها بلوحات رائعة لرسام الكاريكاتير الفرنسي الشهير (سيمبي)، يستعرض زوسكند حكاية رجل بسيط اسمه «سومر» من وجهة نظر صبي مولع بتسلق الأشجار، وذلك لأن الصبي هذا هو وحده الذي استطاع أن يحيط بمعظم أحوال سومر، لأنه كان، على مر السنوات، متسكعا في الغابة أو على الدروب.

الغرابة هنا لا تتجلى في مغامرات الصبي الأخرق، الذي يعرف كل شجرة في الغابة القريبة من المنزل، والذي يغامر بتسلق أعلاها بطريقة تبدو موازية لمحاولة الانتحار، بل هي تكمن في شخصية وظروف سومر المسكين المثير للإشفاق، الذي جعله مرضه النفسي يحيا بين الناس وبعيداً عنهم في الوقت ذاته، فلأنه مصاب برهاب الأماكن المغلقة، كان يمضي جميع أوقات حياته ماشياً في العراء على غير هدى، صيفاً وشتاءً، ليلاً ونهاراً، تحت الشمس ووسط الجليد. والويل لمن يستوقفه ليوصله بسيارته عند هبوب العواصف، أو لمن يحاول إيواءه في بيته عند هطول الأمطار، ذلك لأن دعوة الاثنين، بالنسبة اليه، هي محاولة وحشية لوضعه بين براثن الموت!

متى إذن كان يتناول طعامه؟ ومتى كان ينام؟

المشهد الوحيد الذي التقطه الصبي لسومر وهو يأخذ نصيبه من النوم والطعام كان خلال وجود الصبي فوق شجرة عالية صادف أن توقف سومر تحتها ليتناول طعامه من كيس يحمله، ولينال غفوة.

ذلك المشهد الذي تضمن الأكل والنوم، لم يأخذ من الوقت أكثر من دقيقة واحدة، فطعامه لم يكن سوى لقمة ازدردها وشربة ماء تجرعها، أما نومه فقد تمثل في انطراحه على الأرض، وإطلاقه عدة حسرات عالية منبعثة من أعماق صدره، ومدوية في فضاء الغابة، وكأنه يطلق فيها عناء عمره كله. وهذا كل شيء!

تلك الحسرات المرزمة كالرعد، كما وصفها زوسكند ستظل من الأشياء التي أتذكرها على الدوام، وستظل ذكراها مقرونة بالشفقة والرهبة معاً!

منذ مطلع التسعينيات وحتى اليوم، سكت باتريك زوسكند... لكن أعماله المفعمة بالغرابة بقيت، وستبقى دائما، تنطق بحرارة، وبجميع اللغات، ذلك لأنها تتناول موضوعات إنسانية عامة يمكن أن تقع في أي زمان وفي أي بقعة في الأرض.

*شاعر عراقي

* تنشر بالاتفاق مع جريدة الراية القطرية

back to top