الإسـلام التقدمي

نشر في 24-06-2007 | 00:00
آخر تحديث 24-06-2007 | 00:00
 د. حسن حنفي

كانت الحضارة الإسلامية في عصرها الذهبي، في القرون السبعة الأولى، حضارة تقوم على العقل والعلم، وكانت أوروبا في العصر ذاته متخلفة في العلوم والآداب. ثم انقلبت الآية. فأصبحنا نحن في العصر المملوكي العثماني في القرون السبعة الأخيرة نموذجا للحضارة المتخلفة الناقلة لعلومها الماضية والمقلدة لتراثها السابق، الشارحة والملخصة له. وأصبحت أوروبا في عصورها الحديثة نموذج الحضارة المتقدمة.

والإسلام «التقدمي» أحد أشكال اليسار الإسلامي وتعبيراته المختلفة مثل الإسلام العقلاني أو الإسلام العلمي. ويعني الإسلام الذي يساهم في صنع التقدم للشعوب، إسلامية أو غيرها. فالتقدم في حد ذاته فضيلة. وهو مذكور في القرآن لفظاً (لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر). ونفس المعنى في لفظ السبق (فالسابقون السابقون). وفي القرآن نقد شديد للتخلف (فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله)، وللمتخلفين من الأعراب (قل للمخلفين من الأعراب)، وللخوالف (رضوا بأن يكونوا مع الخوالف)، وللقاعدين (إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين).

والغرب يزهو علينا وعلى بقية الحضارات أنه وحده حضارة التقدم، وأنه قد أغنى الحضارات البشرية بمفهومي التقدم والتاريخ والأمل في المستقبل. وصاغ لذلك «فلسفة التاريخ»، تُعنى بالتقدم وباكتشاف قوانينه. فوقع في العنصرية والمركزية الأوروبية. فالتقدم يبدأ منه عند اليونان والرومان، وينتهي إليه في الغرب الحديث. في حين انشغلت الحضارات الأخرى بالخلود، بكل الزمان. وصنف غيره ضمن الشعوب «المتخلفة». تئن من ثقل الماضي دون أن تتحرر منه إلى المستقبل. ربط الإسلام بمظاهر التخلف مثل القهر والاستبداد والعنف وخرق حقوق الإنسان والمواطن والمرأة والأقليات.

ولفظ «تقدم» من فعل «قدم» يعني قديما وتقدما فى آن واحد. أخذت الثقافة الموروثة أحد المعنيين، وهو القديم كمعنى تداولي دون المعنى الثاني، وهو التقدم فغاب المفهوم من ثقافتنا المعاصرة ومن خططنا ومن سلوكنا اليومي. هنا تأتي أهمية اليسار الإسلامي في إعادة بناء الثقافة الموروثة بعد أن أصبحت هي الرافد الرئيسي المكون للثقافة الوطنية.

ليس التقدم جوهراً ثابتاً وقيمة مطلقة تخص شعباً دون شعب إلى الأبد. بل هو سمة توجد في شعب وحضارة في لحظة تاريخية معينة. كانت الحضارة الإسلامية في عصرها الذهبي، القرون السبعة الأولى، حضارة تقوم على العقل والعلم، وتهدف إلى التقدم وتأسيس العمران. وكانت أوروبا في العصر الوسيط المتزامن مع عصرنا الذهبي متخلفة في العلوم والآداب. ثم انقلبت الآية. فأصبحنا نحن في العصر المملوكي العثماني في القرون السبعة الأخيرة نموذجا للحضارة المتخلفة الناقلة لعلومها الماضية والمقلدة لتراثها السابق، الشارحة والملخصة له. وأصبحت أوروبا في عصورها الحديثة نموذج الحضارة المتقدمة ورائداً للحداثة والتحديث.

ليس إذن التقدم غريباً على الحضارة والشعوب العربية والإسلامية. ظهر المفهوم في العلوم الإسلامية النقلية العقلية القديمة، أصول الدين وأصول الفقه وعلوم الحكمة والتصوف.

ففي علم أصول الدين تساءل العلماء عن مستويات التقدم ورتبه هل هو بالزمان، تقدم الأب على الابن، أو بالمكان، تقدم القائد الصفوف، أم بالشرف، تقدم الأنبياء على سائر البشر؟ كما ظهر التقدم في الماضي في النبوة وتوالى الأنبياء من آدم حتى محمد. ويستمر التقدم في المعاد في استمرار الحياة بعد الموت. ثم ينهار التقدم في إمامة المفضول على الرغم من وجود الأفضل، وتوالى الانهيار في الأجيال جيلاً وراء جيل «خير القرون قرني ثم الذي يلونه»، «الخلافة من بعدي ثلاثون سنة تتحول بعدها إلى ملك عضود». ثم يأتي المهدى ليرفع الأمة من هذا الانهيار ويخلصها من طول قهر وظلم، ويملأ الأرض عدلاً كما مُلئت جوراً.

وفي علم أصول الفقه ظهر التقدم في العلاقة بين المصادر الشرعية الأربعة: الكتاب والسنة والإجماع والقياس، من نص الوحي الأول إلى نص الرسول إلى قرار الإجماع إلى فتوى القياس. بل إن التقدم داخل في كل أصل. في القرآن في الناسخ والمنسوخ، وتغير الحكم الشرعي بتغير الزمان، وقياسه على مقدار القدرة والأهلية والطاقة. والتقدم في السنة من المرحلة المكية إلى المرحلة المدنية. والتقدم في الإجماع. كل إجماع ملزم لعصره. وإجماع العصر السابق ليس ملزماً لهذا العصر. وإجماع هذا العصر ليس ملزماً للعصر القادم نظراً لتغير الظروف.

وفي علوم الحكمة وفي علوم التصوف ظهر التقدم على مستوى رأسي وليس أفقياً، التقدم الروحي، والصعود إلى الحق إشراقاً أو النزول منه فيضاً. فالتقدم في الحكمة رقي في الدرجة من أسفل إلى أعلى، من العقل الإنساني، المستفاد أو بالملكة إلى العقل الفعال أو فيضا من العقل الفعال على العقل بالقوة، وهو العقل الإنساني. كما ظهر التقدم الدائري أو الحلزوني في فلسفة التاريخ عند ابن خلدون، عوداً على بدء، من البداوة إلى الحضارة إلى البداوة من جديد. كما تجلى هذا التصور الحلزوني في قصص الأنبياء في القرآن. يظهر النبي ضد مثالب قومه، مثل التسلط عند آل فرعون، الشذوذ الجنسي عند قوم لوط، العصيان في بني إسرائيل، عبادة الأصنام لدى آل إبراهيم. ثم تعود المجتمعات إلى ما تعودت عليه من قبل. فيظهر نبي جديد مذكراً بالأنبياء السابقين، وكما صور نجيب محفوظ في «ملحمة الحرافيش» وفي «أولاد حارتنا».

أما علوم التصوف فتصورت التقدم أيضاً ارتقاءً فى المقامات والأحوال، من التوبة إلى الفناء، طريقاً إلى الله يسلكه السالكون، ويطرقه المريدون بمساعدة مشايخ الطرق. وهو تقدمي أخلاقي روحي. ينتهي بعالم الأقطاب والوتاد والأبدال والنقباء من صنع الخيال. يجد فيه الصوفي البديل عن عالم الظلم والقهر والاستبداد أو عالم الرياء والنفاق والمداهنة والمديح.

ثم أصبح مفهوم «التقدم» أحد هموم الفكر العربي الإسلامي الحديث والمعاصر في حركات الإصلاح بكافة أنواعها، الإصلاح الديني عند الأفغاني، الاجتهاد ضد التقليد، والعقل في مقابل النقل، وحرية الإرادة في مقابل القضاء والقدر، والديموقراطية في مواجهة التسلط والطغيان. وتساءل شكيب أرسلان: لماذا تخلف المسلمون وتقدم غيرهم؟ كما ظهر كتقدم مدني فى الفكر السياسيي الليبرالي عند الطهطاوي. وترجم فتحي زغلول سر تقدم الأنجلوسكسون. وأبرزه أنصار الفكر العلمي العلماني وأنصار نظرية التطور لدارون. إن التقدم والارتقاء سر الحياة الطبيعية والإنسانية. فكل شيء يتطور بمن في ذلك الإنسان والحضارة.

وأُنشئت عديد من الأحزاب التي وصفت نفسها بالتقدمية، الحزب الاشتراكي التقدمي، التجمع الوطني التقدمي. وأُنشئت وحدة الأحزاب التقدمية. وظهرت دور نشر تحمل اسم «التقدم» كتلك التي أسسها أنصار سلامة موسى. غناه الشعراء، ودافع عنه المفكرون في مواجهة قوى المحافظة والرجعية والسلفية.

اليسار الإسلامي إذن هو إحدى القوى التقدمية في الوطن العربي والعالم الإسلامي. يرى أن اليوم أفضل من الأمس على الرغم من بعض مظاهر الانتكاس، وأن الغد أفضل من اليوم على الرغم من حال التشاؤم والانهيار العامة. والقرآن يحث على الأمل (يا أيها الذين آمنوا لا تقنطوا من رحمة الله). وهو واقع مهما طال الانتظار (ويقولون متى، قل عسى أن يكون قريبا).

 

كاتب ومفكّر مصري

back to top