الدولار قبل التنحي
إن مبادلة النفط بعملة أخرى غير الدولار تمثل خطاً أحمر أميركياً ثقيلاً، ويعود السبب في ذلك إلى أنه في حالة كسر العلاقة العضوية القائمة بين النفط والدولار، فإن الدولار سيغادر موقعه كعملة الاحتياط الدولية، وسيهدد تنحّيه عن هذا الموقع الإمبراطورية الأميركية بشكل يفوق ما مثّلته لها التهديدات السوفييتية إبان الحرب الباردة.يثير تدهور سعر صرف العملة الأميركية «الدولار» مخاوف عالمية لا تقتصر على منطقة جغرافية دون غيرها، ومردّ ذلك أن الدولار هو وسيط التبادل في التجارة الدولية، وهو فضلاً عن ذلك الوسيط المفضل لبناء الاحتياطيات، وإذ يشكو الأوروبيون من أن الولايات المتحدة الأميركية تصدر مشكلاتها إلى العالم عبر الدولار، فتراجع سعر صرفه لا يفيد سوى الاقتصاد الأميركي في النهاية لأنه يجعل الصادرات الأميركية أرخص في الأسواق العالمية ويرفع قيمتها التنافسية في مقابل الصادرات الأوروبية المقومة باليورو أو الصادرات اليابانية المقومة بالين. ولا يقتصر الأمر على فقدان المنافسة مقابل الصادرات الأميركية فقط بل مقابل الصادرات الآسيوية المحددة بالدولار أيضاً، ويسبّب تراجع سعر صرف الدولار مشاكل من نوع آخر للدول المصدرة للنفط، إذ يتم تسعير النفط بالدولار، وفيه تحتفظ الدول المصدرة باحتياطياتها الدولية، ويسبّب هبوط الدولار أيضاً صداعاً لمن يثبّتون عملاتهم مقابل الدولار، فالهبوط يسبب ضغوطاً تضخمية في اقتصاداتهم، ومع تراجع سعر صرف عملات هذه الدول نتيجة هبوط الدولار، تصبح هذه الضغوط التضخّمية أسوأ، فضلاً عن تراجع كبير في قيمة أصولها المقومة بالدولار. كان العالم قد اعترف للدولار الأميركي بمقتضى اتفاقية «بريتون وودز» في العام 1945 بصفة عملة الاحتياط الدولية، ولكن بشرط دوام قابلية الدولار للتحويل إلى الذهب. وتوسعت واشنطن في الإصدار النقدي لتمويل الإنفاق العام فيها، معتمدة في ذلك على حقيقة أن الطلب على الدولار لم يعد أمراً يخص السوق المحلية الأميركية وحدها، بل بسبب نشوء طلب دولي على العملة الوطنية الأميركية «الدولار» أخذ يتوسع بتوسع حجم التجارة الدولية.ورفضت الولايات المتحدة الأميركية في شهر أغسطس 1971 تحويل الدولار إلى ذهب، وهو ما عنى وقتها إفلاساً مالياً أميركياً وتملّصاً من التزاماتها التعاقدية بموجب اتفاقية «بريتون وودز»، ولما لم تستطع أي دولة في العالم إضفاء صبغة دولية مشابهة على عملتها الوطنية، استمر الدولار عملة الاحتياط الدولية، ثم لم تعدم واشنطن الوسيلة لإسناد عملتها الوطنية، فدعمتها باتفاق مع الدول المصدرة للنفط الأعضاء في «أوبك». ويقضي الاتفاق القائم منذ العام 1972 بالتزام دول «أوبك» بألا تقبل أي عملة غير الدولار في مبادلاتها النفطية، وهو ما أسس لظهور مصطلح «البترو-دولار» وما يعنيه من دلالات سياسية-اقتصادية، ولأن العالم كان -ولايزال- مضطراً لشراء النفط لتدوير آلته الصناعية، فقد كان مضطراً أيضا إلى حيازة الدولار، وبزيادة الطلب على النفط مع نمو الاقتصاد العالمي زاد بالضرورة الطلب على الدولار. ولم يعد الدولار مرتبطاً بالذهب منذ ذلك الوقت بل بالنفط، ووفق هذه الآلية نجحت واشنطن في ترسيخ وضعها الإمبراطوري مقابل الأقطاب الاقتصادية الأخرى في العالم، بحيث صار النفط ضامناً لبقاء الدولار عملة الاحتياط العالمية، وفي حين خاضت «أوبك» صراعات سياسية من أجل تأكيد استقلالية نسبية في تسعير النفط، وحققت نجاحات في ذلك، إلا أن مبادلة النفط بعملة أخرى غير الدولار تمثل خطاً أحمر أميركياً ثقيلاً، ويعود السبب في ذلك إلى أنه في حالة كسر العلاقة العضوية القائمة بين النفط والدولار، فإن الدولار سيغادر موقعه كعملة الاحتياط الدولية، وسيهدد تنحيه عن هذا الموقع الإمبراطورية الأميركية بشكل يفوق ما مثلته لها التهديدات السوفييتية إبان الحرب الباردة. وقد طالبت كل من إيران وفنزويلا في الاجتماع الأخير للدول المصدرة للنفط الذي عقد في السعودية الدول الأعضاء بالتخلي عن الدولار المتراجع وتشكيل سلة عملات لتقويم النفط بها، وهو ما لم يتم تبنيه من الدول الأعضاء بسبب ما سيشكله هذا القرار من تغيير في الخريطة الاقتصادية العالمية من ناحية، وبسبب التداعيات المحتملة لهكذا قرار على الدول المصدرة نفسها. وتبنت القمة خياراً وسطاً بين الطرفين عبر تضمين البيان توجيهاً إلى وزراء المالية في الدول الأعضاء بدراسة مسألة الدولار وتأثيره في أسعار النفط، وشكّل إعلان كل من طهران وكاراكاس نيتهما اتخاذ تدابير مشتركة للتخلي عن الدولار كعملة احتياط تهديداً للاقتصاد الأميركي بسبب عامل السابقة التاريخية، وبغض النظر عن حجم الاحتياطيات الإيرانية والفنزويلية المحسوبة بعشرات المليارات مقارنة بالقدرات الأميركية المقومة بمئات التريليونات (التريليون يساوي ألف مليار)، سيشكل هذا التحول عن الدولار سابقة تاريخية، ولو حذت دول نفطية أخرى حذوهما لشهدنا ظهور «البترو-يورو» ليزاحم «البترو-دولار» أو حتى «الذهب الرقمي» لينافس الدولار كعملة احتياط دولية.ومع الاعتراف لطهران بالبراعة في استنزاف واشنطن واستثمار إخفاقاتها في المنطقة من أجل الوصول إلى ما تراه «حقاً إقليمياً» لها، سيستعدي «تصعيدها النقدي» الأخير عليها قوى كونية وأسطورية يمكن التصوّر بأنها قد تنفلت الآن من مكامنها غير المنظورة لمواجهة تحديات ما تعتبره «مصالحها الوجودية». * كاتب وباحث مصري