... وكانت السماء سوداء!
كنا في سجن أبو صخير شمال البصرة أو «قرمة علي»، وعلمنا بالتحرير من خلال راديو تجميع عراقي ماركة «القيثارة»، وكانت خشيتنا أن تسريب الخبر هكذا من «دون ضوابط» قد يؤدي إلى حالة من هستيريا الفرح التي قد تؤدي إلى أعمال انتقامية من قبل الحرس والاستخبارات العراقية.اعتادت وسائل الإعلام لسنوات عدة في ذكرى الغزو الموافق الثاني من أغسطس أن تسأل سؤالاً تقليدياً وهو أين كنت يوم الغزو؟ وقد أصبحت كلمة «الأزمة» تعني «الغزو»، وشيئا فشيئا ومع مرور السنين اختفى السؤال التقليدي واختفت «الأزمة» ربما لأننا دخلنا في أزمات لا حصر لها كان آخرها أزمة «مغنية» التي أوضحت هشاشة الممارسة السياسية وضعفها وضياع «كشتها»، والحاجة الماسة إلى إعادة ترتيب الأوراق.إلا أن الملاحظ هو أن ذلك السؤال لم يكن يطرح بالشكل التقليدي نفسه عن التحرير... فنادراً ما نتساءل أين كنت يوم التحرير؟ ربما لأن الناس قد انشغلت بالفرح.في يوم التحرير كانت السماء سوداء من الدخان الذي تكوّن من حرق صدام حسين لآبار النفط الكويتية. ومع ذلك فقد أشرقت الشمس وهطلّت الأمطار لتقضي على الماء الحمضي. كنا حينها في سجن أبو صخير شمال البصرة أو «قرمة علي»، كما يطلقون عليها، وقد انهمر المطر لأكثر من 24 ساعة متواصلة، وفي هزيع الليل همس مظفر بأذني بأن المطر قد أصبح ماءً زلالاً بعد طول هطول، ومد يده في إناء مكسور خارج النافذة وجاء بالماء العذب، فكان أول ماء نقي نشربه، كان ماء فيه حلاوة لم أتذكر أنني ذقت مثلها من قبل.كان عددنا 1182 من الكويتيين وبعض البدون الذين أصروا على البقاء معنا على الرغم من إمكانية خروجهم مبكراً، وتنكر لهم مَن تنكر عندما عدنا إلى الكويت المحررة.كنا موزعين على أربع حظائر بمعدل 300 أسير تقريباً على كل حظيرة، وكانت الحظيرة عبارة عن 25 متراً طولاً و4 أمتار عرضاً. وكان التكدس والجوع والعطش والأمراض وغيرها من أبرز الاشكاليات. وكان الأسرى يشكلون أطياف المجتمع كلها وفئاته وطبقاته من دون تحيز أو تمييز.ونعود إلى السؤال، كيف علمت بالتحرير؟ في معتقل «بوصخير» استطعنا الحصول على راديو «تجميع عراقي» ماركة «القيثارة» وبموجة واحدة فقط، ولكنه، وبسبب تقوية البث، كان يلتقط الإذاعات الخارجية ونتعرف منه على ما يدور وما يحدث خارج إطار «بو صخير». وكنا قد قسمنا العمل بحيث تقوم «مجموعة الاستماع» بالتقاط الأخبار من تحت «البطانية» حتى لا يكتشف الحراس الأمر، ثم نتولى إذاعة الأخبار على بقية الأسرى. وقد كانت تلك العملية من أكثر وسائل الإعلام تخلفاً، حيث كنت أقوم بتبليغ «موجز الأخبار» لمجموعة تلو مجموعة بصوت خافت من بداية الحظيرة وحتى نهايتها، وكان من الطبيعي أن أتلقى أسئلة كثيرة ما يجعل «موجز الأنباء» هو الأطول في التاريخ حيث كان يستغرق أحياناً ما يزيد على الساعتين، وكان اعتيادياً أن يتم «إعادة فهم» أو «إعادة صناعة» الخبر ليتوافق مع أمنيات وتطلعات المستمع، وهكذا اكتشفنا بعد فترة أن «وزارة إعلامنا» في الحظيرة رقم 2 لم تكن بأحسن حال من وزارات الإعلام الاعتيادية.وهكذا علمنا بالتحرير من خلال «القيثارة»، وكانت خشيتنا أن تسريب الخبر هكذا من «دون ضوابط» قد يؤدي إلى حالة من هستيريا الفرح التي قد تؤدي إلى أعمال انتقامية من قبل الحرس والاستخبارات العراقية، فاتفقنا على أن أقوم بجولتي الإعلامية الاعتيادية برسالة محددة... «الكويت تحررت.. افرحوا.. ولكن بهدوء»... وهكذا كان. كان فرحنا بانقشاع الغمة بهدوء.. والحمد لله على كل حال.