دليل فشل جديد لإدارة بوش
هناك مؤشر مهم نراه ينمو في الساحة الأميركية، حيث تنتشر على نحو غير مسبوق، كماً وكيفاً، على امتداد القارة الأميركية، شبكات شبابية غير حكومية وتحالفات شعبية يسارية الهوى لعبت دوراً مركزياً في حسم نتائج انتخابات التجديد النصفي للكونغرس في نوفمبر 2006 لمصلحة الديموقراطيين.أظهر استطلاع للرأي أجرته أخيراً في الولايات المتحدة وعدد من دول أوروبا الغربية صحيفة «الفاينانشيال تايمز» بالتعاون مع مركز هاريس للأبحاث (www.harrisinteractive.com)، ذيوع نظرة شديدة السلبية تجاه الولايات المتحدة الأميركية ودورها في السياسة الدولية بين المواطنين الأوروبيين وبين قطاع واسع من الشباب الأميركي. فقد صنف ما يقرب من ثلث العينة الاستطلاعية (%32) في بريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا، وكذلك ثلث المستجوبين من الأميركيين في الفئة العمرية 16-24، واشنطن كمصدر التهديد الأكبر للسلم والأمن العالميين. وتلت القوة العظمى أوروبياً الصين وإيران وكوريا الشمالية بنسب %19 و%11 و%9 على التوالي، في حين صنف الأميركيون من غير الشباب كوريا الشمالية وإيران باعتبارهما الدولتين الأكثر خطراً في اللحظة الراهنة.وبغض النظر عن الدلالات المهمة لنظرة الأوروبيين السلبية للصين ودورها في السياسة العالمية وتلك المعلومة سلفاً للنظرة النمطية في الغرب تجاه إيران وكوريا الشمالية، تُظهر نتائج الاستطلاع من جهة أولى بجلاء، عمق التداعيات السلبية التي رتبتها مغامرات إدارة بوش في سياق حربها على الإرهاب (أفغانستان)، وحروبها الاستباقية (العراق)، ونهجها الانفرادي في التعاطي مع عدد من القضايا الرئيسية الأخرى (كمواجهة التغيرات البيئية والاستراتيجيات الأفضل لمقاومة الانتشار المستمر لمرض الايدز على سبيل المثال) بين مواطني دول أوروبا الغربية، حلفاء واشنطن الأهم والأقدم. وعلى الرغم من أن اللحظة الراهنة تشهد، خاصة بعد تغير القيادة السياسية في فرنسا من شيراك إلى ساركوزي والتحول الأسبق حدوثاً في ألمانيا من شرودر إلى ميركل، تقارباً استراتيجياً واضحاً بين إدارة بوش وحكومات أوروبا الغربية حول عدد من الملفات الدولية (التعامل مع روسيا والملف النووي الإيراني وعملية السلام في الشرق الأوسط)، فإن توجهات الرأي العام في أوروبا تحد من هذا التقارب وتضغط بشكل غير مباشر على صناع السياسة في لندن وباريس وبرلين لعدم التماهي مع واشنطن.يدلل من جهة أخرى انتشار قناعات مشابهة بين قطاع واسع من الشباب الأميركي على تبلور تطورين على درجة عالية من الأهمية داخل الولايات المتحدة؛ عودة اليسار والانحسار النسبي لموجة المد الديني الأصولي ذي المحتوى السياسي اليميني. فهناك بالفعل العديد من المؤشرات على خروج اليسار الأمريكي من أزمته التي بدأت مع سيطرة الريجانية (نسبة إلى الرئيس رونالد ريجان) المحافظة في الثمانينيات وتعمقت مع الانهيار المدوي للمنظومة الاشتراكية في الاتحاد السوفييتي السابق وأوروبا الشرقية وتهميش التيار اليساري داخل الحزب الديموقراطي في التسعينيات. وربما كان أهم هذه المؤشرات هو الانتشار غير المسبوق، كماً (بمعنى العدد) وكيفاً (أي التنوع) على امتداد القارة الأميركية، لشبكات شبابية غير حكومية وتحالفات شعبية يسارية الهوى لعبت دوراً مركزياً في حسم نتائج انتخابات التجديد النصفي للكونغرس (نوفمبر 2006) لمصلحة الديموقراطيين، ومن المتوقع لها أن تؤثر بوضوح في صياغة تفضيلات الناخبين الشباب في السباق الرئاسي 2008. فثقافة اليسار في الولايات المتحدة نظرت على الدوام، خاصة منذ حرب فيتنام في ستينيات القرن الماضي، بعين القلق والريبة الى سياسات القوة العظمى في الخارج وتسترد اليوم عافيتها على وقع الأخطاء الفادحة لإدارة بوش.ويتواكب ذلك مع تراجع نسبي أظهرته انتخابات الكونغرس الأخيرة في شعبية اليمين الديني الأصولي وقدراته على صياغة التفضيلات والرؤى السياسية لقطاعات شعبية مؤثرة، خاصة في وسط الولايات المتحدة وجنوبها الشرقي، وهو التطور الذي أسهمت الإخفاقات المتتالية لبوش خارجياً وداخلياً، في دفعه إلى الواجهة وتعانيه اليوم الماكينة الانتخابية للحزب الجمهوري بينما تعد للسباق الرئاسي 2008. وتظل المشكلة الحقيقية هي محتوى ونتائج سياسات بوش في الداخل والخارج. فلن تنجح إدارة الرئيس، الذي أضحى عهده وثيق الارتباط بغوانتانامو وغزو العراق وأبو غريب ومباركة عدوان إسرائيل على لبنان، في تحسين صورة القوة العظمى في أوروبا أو إقناع الشباب الأميركي بأن بلدهم لا يشكل الخطر الأكبر على السلم العالمي دون إنجاز تغيير فعلي وجوهري في السياسات المتبعة. وأغلب الظن أن إدارة بوش اليوم بتكويناتها المختلفة تفتقد الرغبة أو القدرة على القيام بذلك. كبير باحثين في مؤسسة كارنيجي للسلام العالمي– واشنطن