الإصلاح العربي وهامشية المراكز

نشر في 21-10-2007
آخر تحديث 21-10-2007 | 18:38
تبدو اليوم دول كمصر والسعودية والجزائر (ناهيك عن العراق المحتل) عاجزة عن أن تلعب سواء دور «الدولة-النموذج» التي تؤثر في الدول المتوسطة والصغيرة، أو أن تلعب دور «الدولة-القاطرة» القادرة على دفع الدول الأخرى في اتجاهات تطورية بعينها عن طريق ممارسة سياسة خارجية نشيطة تروم التأثير المباشر في المحيط الإقليمي.
 د. عمرو حمزاوي تدعو الصورة الراهنة للحراك السياسي والمجتمعي في الدول العربية إلى إعادة النظر في فرضيتين أساسيتين هما في موقع القلب من تفكير قطاعات واسعة من نخب الفكر والثقافة في عالمنا؛ مركزية الدول الكبيرة وحتمية تواكب الإصلاح الاقتصادي والسياسي.

تبدو اليوم، وعلى خلاف محطات سابقة مهمة في التاريخ العربي الحديث، دول كمصر والسعودية والجزائر (ناهيك عن العراق المحتل) عاجزة عن أن تلعب سواء دور «الدولة-النموذج» التي تؤثر في الدول المتوسطة والصغيرة من خلال صياغة رؤية متكاملة ذات مساحة من الصدقية والجماهيرية لصيرورة تحولات المستقبل السياسية والاقتصادية والاجتماعية، أو أن تلعب دور «الدولة-القاطرة» القادرة على دفع الدول الأخرى في اتجاهات تطورية بعينها عن طريق ممارسة سياسة خارجية نشيطة تروم التأثير المباشر في المحيط الإقليمي. ففي حين تعاني مصر والجزائر، ومنذ أمد ليس بقصير، أزمات داخلية حادة تستنفد طاقات الدولتين وتقلل كثيراً من الإمكانات المتاحة لهما للفعل الخارجي، ما لبثت السعودية تتأرجح بين تحديد أدوات ومضامين وضعيتها كقوة إقليمية نافذة وبين الانكفاء على الذات والتركيز على مقتضيات التنمية الاقتصادية والعمرانية. الأخطر من ذلك أن حقائق السياسة والمجتمع في هذه الدول الثلاث الكبيرة تتسم في اللحظة الراهنة بجمود وتكلس واضحين يحولان بينها وبين تقديم نموذج جذاب للشقيقات من المحيط إلى الخليج.

وفي المقابل، شهدت السنوات القليلة الماضية تبلور وبزوغ العديد من التجارب التنموية والإصلاحية الناجحة في دول عربية متوسطة وصغيرة. فعلى الصعيد السياسي، تمثل الخبرة المغربية في الانتقال التدريجي من نمط التعددية الحزبية المقيدة المسيطر عليها، في التحليل الأخير، من قبل المؤسسة الملكية، إلى مساحة أكبر من المنافسة الحقيقية بين القوى المختلفة من ليبرالية ويسارية إلى إسلامية، فضلا عن التعامل النقدي مع انتهاكات حقوق الإنسان في الماضي القريب باعتماد مفاهيم العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية، المثال الأوضح نجاحاً والأكثر مصداقية في العالم العربي لإمكانات التحول الديموقراطي التدرجي. بالقطع لا تعدم التجربة الكويتية المعاصرة في تحويل السلطة التشريعية المنتخبة إلى مركز حقيقي لصناعة القرار الى جانب السلطة التنفيذية، أو لحظة الانتقال من حكم العسكر إلى رئاسة مدنية منتخبة في موريتانيا الإشعاع الإقليمي، إلا أن خصوصية الكويت كدولة نفطية غنية ذات تاريخ سياسي متميز وحداثة، ومحدودية التجربة في موريتانيا، يضعان علامات استفهام حول موقعهما كنماذج صالحة للاحتذاء عربياً. اقتصادياً، تقدم نجاحات دولة الإمارات العربية المتحدة وقطر في الآونة الأخيرة، والدولتان حققتا أعلى معدلات نمو اقتصادي في الشرق الأوسط في عامي 2005 و2006، الدليل على الحيوية الاقتصادية والتوازن الاجتماعي للنموذج الليبرالي المنفتح على دينامية التنافسية للسوق العالمي والساعي لتنويع مصادر القوة الاقتصادية فيما وراء الثروة النفطية. اليوم تنظر النخب السياسية ومجموعات رجال الأعمال في الخليج وخارجه إلى تجربتي الإمارات وقطر بإعجاب شديد وتسعى إلى الإفادة منهما.

لا طائل لنا في العالم العربي من وراء انتظار أن تتحرك الدول الكبيرة أو تحسم اختياراتها لتقدم النماذج الغائبة، فتلك حاضرة - على الأقل بصورة جزئية - في مواقع أخرى.

أما الفرضية الثانية، التي ينبغي إعادة النظر في فحواها ومدى قدرتها على تفسير الظواهر المعاصرة في عالمنا، فهي تلك المتعلقة بحتمية تواكب وتوافق التحولات الاقتصادية والسياسية في المجتمعات التي لم تكتمل بعد ليبراليتها الاقتصادية ومازالت بعيدة عن الإدارة الديموقراطية لحياتها السياسية. والإشارة هنا تحديداً إلى القناعة التي راجت بقوة في تسعينيات القرن الماضي، خاصة في الولايات المتحدة ودوائر المنظمات الدولية الفاعلة في مجالي الاقتصاد والتنمية كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، واستندت إلى صياغة علاقة خطية (بمعنى أحادية الاتجاه) وطردية بين تبلور نظام اقتصادي ليبرالي في دولة ما وانفتاح الحياة السياسية بها نحو شكل ديموقراطي لإدارة ترابطات الدولة والمجتمع والمواطن. فقد أثبتت العديد من التجارب تهافت هذه الفرضية التي اشتهرت دولياً تحت مسمى «توافق واشنطن» (Washington Consensus).

فلم يرتب الانفتاح الاقتصادي في الصين انفتاحاً مقابلاً يذكر في السياسة، بل أضحى العملاق الآسيوي قوة رأسمالية كبرى يحكمها حزب شيوعي مركزي يقمع حركات المعارضة وأصوات الانشقاق بلا هوادة. وفي عالمنا العربي لم تحفز التجارب الاقتصادية الناجحة في الإمارات وقطر، على سبيل المثال، نخب الحكم في هاتين الدولتين أو القوى الاجتماعية الأخرى كالنخب الاقتصادية (بما بين المجموعتين من تداخل في التكوين وتماهي في المصالح) على تشجيع حراك سياسي فعلي يتخطى حدود واجهة مؤسسية شكلية وانتخابات محدودة. ينطبق ذات الأمر على حالات أخرى كالجزائرية والتونسية والمصرية والأردنية وبها جميعاً صارت دينامية التحولات الاقتصادية الليبرالية، بحظوظ مختلفة من النجاح والإخفاق، بانفصال شبه تام عن صيرورة الحياة السياسية. بل إن الخبرة التونسية منذ بداية التسعينيات تقدم دليل إثبات واضحاً على إمكان العلاقة العكسية بين الاقتصاد والسياسة حيث تواكب تسارع معدلات الانفتاح الاقتصادي مع رِدّة واضحة عن التعددية السياسية وخطوات الإصلاح الديموقراطي.

تتعارض بل تتناقض الزمانيات الاقتصادية والسياسية في عالمنا وأغلب الظن أنها ستستمر على هذا المنوال لفترة مقبلة.

back to top