كاتب وجرّاح

نشر في 28-09-2007
آخر تحديث 28-09-2007 | 00:00
 محمد سليمان

بالبعد الإنساني وبالقدرة على رصد الانكسار والضعف والقهر، انشغل يوسف إدريس وانحاز إلى جموع المهمشين والمنسيين مبرزاً معاناتهم وتشبثهم بالحياة، وأظن دراسته للطب وعمله كطبيب قبل تفرغه للأدب والصحافة، قد أثرت تجربته الحياتية ولونتها بذلك البعد الإنساني.

في أوائل سبعينيات القرن الماضي هاجم يوسف إدريس الشعراء واتهم الشعر بالغموض والانعزال والابتعاد عن هموم الوطن، وأعلن أنه لم يعد قادراً على تذوق الشعر أو متابعته... وكان هذا الهجوم تعليقاً من الكاتب الكبير على القصائد التي أُلقيت في إحدى الأمسيات الشعرية التي كان أتيليه القاهرة للفنانين والكتاب يدعو إليها. ولأن الصديق الراحل أمل دنقل كان في ذلك الوقت أكبر شعراء الأمسية وألمعهم وأكثرهم رسوخا فقد تصدى للهجوم قائلا: «الدكتور يوسف إدريس كاتب كبير نُجله ونقدره، لكنه ليس ناقداً للشعر، ولا متابعاً له، ولذلك نضع هجومه علينا في دائرة الانطباعات الشخصية».

رغم ذلك كنت، ومازلت، أعتبر يوسف إدريس الذي رحل في بداية أغسطس 1992 واحداً من الآباء الإبداعيين بالنسبة إلي، فقد كان كاتباً مبهراً وإنسانا متوهجاً وعاصفاً، يأسرك عندما يتحدث، وينقل إليك ثورته وتوهجه ورغبته في تغيير العالم.

كنت في العشرين من عمري عندما التقيت به في إحدى الأمسيات الثقافية التي كانت تحرص كلية الصيدلة على تنظيمها وتدعو إليها بعض المبدعين والكتاب، بهرني حديثه عن فن القصة وعن الرواية الجديدة وشدني إخلاصه وتوهجه إلى عوالم إبداعية أرحب وأعمق عندما نبهني إلى ضرورة الرصد وتأمل أحداث الواقع ومتابعة الابداع العربي والعالمي، ثم التقيت به مرات عديدة بعد تخرجي. في أواخر الستينيات كانت هزيمة يونيو قد طحنت الجميع، وأطلقت العواصف النفسية التي اجتاحت عدداً من المبدعين وألجأت بعضهم إلى الأدوية لصد غول الاكتئاب والاحباط واليأس، وكنت في ذلك الوقت أعمل في منطقة القاهرة الدوائية صيدلانياً مسؤولاً عن توفير الأدوية النادرة والحيوية للمواطنين، ومازلت أذكر يوسف إدريس وزياراته التي كانت تتم غالباً في ساعات الصباح الأولى وتذاكره الطبية المدون عليها «د. يوسف إدريس طبيب وجراح» بعد تناول دوائه كان يستعيد نشاطه وتوهجه وأحاديثه ثم يسحب الكتاب الذي أقرأه ويصرخ أحيانا كيف تقرأ لهذا التافه المدعي؟ ويلقي بالكتاب من النافذة وينصرف غاضباً!

يوسف إدريس الجراح والثائر العتيد والباحث دائماً عن مبرر للعصف، كان عندما يكتب يذوب ويذيبك معه، وهو يحفر بأصابع الجراح ومشارطه مُفتشاً عن خفايا الجسد وانكسارات الروح، وعن تميز العادي وفرادة المألوف بلغة بسيطة للغاية، لكنها حية وساطعة وقادرة على الإحراق.

الاحتفاء بالإنسان الصغير والتعاطف مع ضعفه ومعاناته وتقديس الحياة، ملامح أساسية لإبداع يوسف إدريس القصصي والمسرحي والروائي، وأظننا لم ننس «أرخص ليالي» و«جمهورية فرحات» و«العسكري الأسود» و«حادثة شرف» و«بيت من لحم» و«البيضاء»... وغيرها، لأن أبطال هذه الأعمال مازالوا ينتمون إلينا ويعيشون بيننا؛ فالعاطل في قصته «شغلانه» مازال يتخذ من بيع دمه حرفة ومصدراً للرزق. والطبيب والممرضة والتومرجي في قصته «5 ساعات»، يحاولون ومازالوا شد المصاب بطلق ناري من ظلام الموت وتوحشه، والخادمة الطفلة في قصته «نظرة» مازالت تحمل الصواني فوق رأسها وتراقب أترابها الأطفال يلهون في الشوارع وتتوقف قليلاً قبل أن يبتلعها الزقاق لتلقي نظرة طويلة عليهم وعلى طفولتها المسروقة، والنداهة القاهرة «أم الدنيا» مازالت تزور الحالمين في القرى والنجوع البعيدة لتزين لهم الهروب إليها والضياع فيها، وبطلة «الحرام» لم تزل تتوارى مسحوقة هنا وهناك.

بالبعد الإنساني وبالقدرة على رصد الانكسار والضعف والقهر، انشغل يوسف ادريس وانحاز إلى جموع المهمشين والمنسيين مبرزاً معاناتهم وتشبثهم بالحياة، وأظن دراسته للطب وعمله كطبيب قبل تفرغه للأدب والصحافة، قد أثرت تجربته الحياتية ولونتها بذلك البعد الإنساني.

ولا أدري لماذا انشغلت بعد وفاته بتأمل أعماله وأعمال بعض الكتاب الذين درسوا الطب لأجد الهموم نفسها والانشغال ذاته بالبشر المهمشين في أعمال تشيكوف وديستويفيسكي وكذلك في روايات وقصص محمد المنسي قنديل ومحمد المخزنجي وعلاء الأسواني، والأمر لايتعلق هنا بالتأثر، كما قد يظن بعضهم، إنما يرتبط بالتجربة الحياتية للمبدع التي أعتبرها منجمه ومستودعه اللذين يعود إليهما بين حين وآخر ليستخرج الكنوز. ودراسة الطب وممارسته أغنت ولوّنت تجارب هؤلاء المبدعين وشحنتها بذلك الهم المشترك الذي لم يلتفت إليه النقاد.

* كاتب وشاعر مصري

back to top