رمضان والممارسات الشعبية

نشر في 17-09-2007
آخر تحديث 17-09-2007 | 00:00
 د. حسن حنفي

تحول رمضان من شهر الهدوء إلى شهر الصخب، ومن شهر الاعتكاف إلى شهر الفسحة، ومن شهر سمو الروح إلى شهر غذاء البدن.

لا يعني الفكر الديني مجرد الوعظ والإرشاد والدعوة بما ينبغي أن يكون، إلى الإسلام المثالي كما تعرضه النصوص المنتقاة الداعية إلى الإيمان والعمل الصالح مما تمتلئ به الصحافة والمجلات الدينية أو صفحات الفكر الديني في الجرائد القومية، خصوصا في شهر رمضان بدلاً من الصفحات الثقافية والأدبية والفنية. الفكر الديني هو بالضرورة فكر اجتماعي نقدي يبغي الإصلاح وتغيير الأوضاع القائمة إلى ما هو أفضل كما فعل الأنبياء مع أقوامهم. وهو ليس فكر المناسبات والأعياد لأن الدين لا زمان له، بل هو بنية أخلاقية للفرد والمجتمع. وليس مجموعة من العبادات والشعائر الصورية، بل هو أساساً معاملات، إذ إن «الدين المعاملة». وقد بدأت المدرسة السلفية المعاصرة منذ أكثر من ستة قرون تنتقد الممارسات الشعبية في رمضان بدعوى أنها من البدع أو الفهم الخاطئ للدين.

إن معظم هذه العادات والممارسات الشعبية إنما نشأت منذ عهد الفاطميين عندما استعملت الاحتفالات الدينية وموالد الأولياء والأئمة لترويج التشيع في مصر. واستمر الأمر حتى العصر العثماني ونشاط الطرق الصوفية واستعمال الممارسات الشعبية نفسها وتوظيفها سياسياً من قبل الحكام لإلهاء الشعب بعيداً عن النشاط السياسي.

وأهم هذه العادات، الطعام والشراب والألوان المختلفة، ومأكولات رمضان خصوصا الحلوى، الكنافة، القطايف، قمر الدين، الزبيب، التين، وجميع أنواع المكسرات. ويزيد استهلاك معظم هذه المواد من دقيق وسكر وفواكه مجففة ونقل بالعملة الأجنبية. تحمل الدولة همّ هذا الشهر المبارك. وتستدين من أجل توفير «حاجات» رمضان غير الزهد والتقوى والتقشف والإحساس بجوع الفقير. ويتبارى الأغنياء والتجار والنجوم والفنانات فى إقامة موائد الرحمن لإعطاء الشرعية على ما كسبوه من قبل بالملايين وربما تحليلاً للمال الحرام. ولقد اثار بعض الفقهاء من قبل سؤالا: هل يجوز تناول الطعام على موائد الرحمن التي تقدمها الراقصات؟

ومن ضمن العادات التسلية والبرامج التلفزيونية والمسلسلات الإذاعية والاستعداد عدة أشهر من قبل لليالي رمضان والسهر حتى الصباح، من الإفطار حتى السحور. وتعد الفنادق الكبرى وجبات سحور حول حمامات السباحة مع برامج ترفيهية بما فى ذلك فواصل من الرقص الشرقي. وأصبحت «فوازير رمضان» أشهر من رمضان نفسه. ويتساءل الناس تخميناً من بطلة الفوازير هذا العام؟ هذه الفنانة القديرة أم الأخرى البديلة؟ ما أغانيها ولوازمها الموسيقية وألحانها وأبطالها ورقصاتها دون التساؤل عن موضوعها. وتتبارى الصحف الدينية فى الحديث عن الصيام وفضائله. وتخصص الصحف القومية صفحاتها للفكر الديني لمناسبة رمضان. وتشرح الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي ذُكر فيها رمضان، فرمضان «بزنس» للصحافة والإعلام، ومكسب للدعاة ولمصممي البرامج التلفزيونية وملحني الأغاني الدينية ولمنشدي الأدعية المحمدية.

ويقل الإنتاج اليومي إلى حده الأدنى. يبدأ اليوم متأخراً، وينتهى مبكراً وبين ساعات اللاعمل التثاؤب والتكاسل والخمول، وإذا طُلب منه أداء عمل صاح وصرخ «اللهم إني صائم». ويتوقف جهاز الدولة عن العمل انتظاراً لانقضاء الشهر الكريم. ولا تبدأ الدراسات العليا في الجامعات إلا بعد رمضان. فهي دراسات مسائية تتقاطع مع موعد الإفطار. ويشتد الزحام بالنهار، فالكل يخرج إلى العمل في وقت واحد، ويعود في وقت واحد. ويبدأ الزحام من جديد، فرمضان يحب السهر والخروج والتسكع في الطرقات والجلوس على المقاهي مع الشيشة. لقد تمت تأدية الفرض بالنهار، والآن الحلال بالليل حتى يتبين الخيط الأبيض من الخط الأسود. وفي الأسبوع الأخير كعك رمضان وفسيخ رمضان، ونزهات رمضان، والملابس الجديدة، وفوانيس رمضان الصينية التي غزت بها أسواق العالم الإسلامي بأغاني الحجاج والأنوار الكهربائية بدلا من حرائق الشموع في يد الأطفال. وتزدان بها المحلات وواجهات المنازل ومداخل الفنادق الكبرى والمؤسسات الثقافية الحكومية مثل دار الأوبرا.

وكما يزداد الاستهلاك، ويشتد الإقبال على الدنيا تزدهر الموالد الدينية والسرادقات أمام المساجد الكبرى، الأزهر والحسين، تنار المساجد، المآذن والقبب. وتقام صلاة التراويح داخل المسجد وخارجه لكثرة المصلين الذين يودون ختم القرآن خلال الشهر الكريم الذي أنزل فيه القرآن. وينتظر الناس ليلة القدر، وفتح طاقة النور من السماء حتى يدعو الجميع، ويطلب كل فرد من الله الاستجابة إلى دعائه، وتحقيق مطلبه من ثروة أو منصب أو نجاح أو زواج أو توفيق فى عمل أو هداية. وتساهم الدولة في ذلك. إذ يشارك الرئيس في صلاة العيد، ويحتفل بليلة القدر والجمعة اليتيمة، وانتظار الثواب يوم البعث والنشور. فكل عبادة لها حكمة ودلالة وغاية ونفع للإنسان فيها إلا الصيام فهو لله يجزي به. مشيخة الطرق الصوفية مثل الأزهر جزء من الرياسة. يعين رئيس الجمهورية شيخ مشايخ الطرق الصوفية وشيخ الأزهر بقرار جمهوري، فالدولة حاضرة في الزفة والمأتم على حد سواء. لا تُباع الخمور في رمضان إلا في فنادق الخمسة نجوم. ولا يُلعب القمار في رمضان إلا في الكازينوهات المخصصة لذلك. إذاً يتضمن رمضان النقيضين، الدنيا والآخرة، اللذات الجسدية واللذات الروحية.

والكثير من العادات يتم في رمضان، طهارة الأطفال تبركاً بالشهر الكريم، وصلة الرحم مفضلة في شهر رمضان، والصدقة والزكاة تخرجان في الشهر المبارك. قبل رمضان وبعد رمضان شيء، وفي رمضان شيء آخر. الأول زمان الهوى، والثاني زمان التقوى. ويتم تنظيف المنازل التنظيف الكبير في نهاية رمضان وقبل العيد حتى يتم التزاور على نظافة في العيد بعد تنظيف المنزل من فضلات الطعام وبقعه ورائحته هنا وهناك. ويتحول رمضان من شهر الهدوء إلى شهر الصخب، ومن شهر الاعتكاف إلى شهر الفسحة، ومن شهر سمو الروح إلى شهر غذاء البدن.

* كاتب ومفكر مصري

back to top