حامد ندا رائد السوريالية الشعبية في كتاب رسّام المرأة المتفجرة والرجل المنكسر

نشر في 10-09-2007 | 00:00
آخر تحديث 10-09-2007 | 00:00

تعرض الباحثة ايناس حسني في كتابها «حامد ندا» الصادر لدى الهيئة المصرية العامة للكتاب لحياة الفنان التشكيلي المصري حامد ندا وعلاقته بالسوريالية وجماعة الفن المعاصر وبالفنان حسين يوسف أمين الذي لعب دوراً تاريخياً في حركة الفنون التشكيلية في مصر، في أعقاب الحرب العالمية الثانية.

ولد حامد ندا عام 1924 في القاهرة في حي القلعة، ثم انتقل الى قصر يملكه جده في حي البغالة. هناك تشرب الدين والواقعية من والده ونهل الفن والخيال من جده فعاش حالة من التناقض غذتها فيه بساطة بيت والده فى حي القلعة وفخامة قصر جده في حي البغالة. هكذا نشأ حامد ندا في بيئة دينية، إذ كان والده مشرفاً على أحد مساجد حي السيدة زينب. استمع في طفولته إلى الأقاصيص الخيالية من نسوة كن يأتين لتسلية والدته بأغرب الحكايات مثل «حمام السعد» و«الديك والخمس فرخات» و«الديك المذبوح والكنز الموعود». تلك الأقاصيص كانت خميرة خياله الأولى وظهرت في لوحاته.

الأستاذ الاول

في المدرسة إلتقى ندا مدرّس الرسم آنذاك حسين يوسف أمين الذي أسس «جماعة الفن المعاصر» وتأثر به كثيراً. معروف ان حسين يوسف أمين لم يطبع تلاميذه بطابع واحد كما كانت الحال مع كلٍ من أحمد صبري ويوسف كامل في كلية الفنون الجميلة، كان لكلّ من أعضاء «جماعة الفن المعاصر» شخصيته المستقلة وإن كانوا جميعًا غير تقليديين. كان حسين يوسف أمين يتحمل نفقات العمل من أوراق وألوان وقماش وموديلات وندوات وافتتاحات معارض وطباعة دعوات وكتالوغات. كما استقطب اثنين من النقاد المرموقين آنذاك، البلجيكي الكونت فيليب دارسكوت الذي نشر فى بلاده كتابًا عن «الجماعة» ذكر فيه حامد ندا وقارن بين لوحاته وكتاب «الأيام» لطه حسين، لناحية تصوير العادات الشعبية بأسلوب تراجيدي، ثم الناقد المصري حبيب إيميه عازار الذى نشر كتيبًا بالفرنسية عن «جماعة الفن المعاصر» الأمر الذي أخر دخول ندا دائرة الضوء على الصعيد المحلي خاصة أن حركة النقد العربية لم تكن تبلورت بعد. ومن أبرز لوحات ندا التي أنجزها في الأربعينات قبل دخوله الجامعة لوحة «داخل المقهى» ونرى فيها رجلاً جالساً على الأرض حاملاً بيده ثلاث ورقات كوتشينه وعلى يده اليمنى وشم، مدققاً النظر فى الورق باحثاً، عن الحظ وبجواره كرسي جلست عليه قطة لها نظرات الثعلب. ومن لوحات هذه المرحلة أيضاً «رقاد القط» (1948) و»المتعبد والسحلية» عام (1947) و»القبقاب» عام (1947) و»الدراويش» (1947) ويتضح فيها نقد تهكمي لما يحصل داخل البيوت الشعبية الخاصة.

عام 1948 التحق ندا بكلية الفنون الجميلة وكانت لديه خلفية كافية عن الفن التشكيلي. أصبحت الدراسة فى الكلية مجرد دراسة تكميلية أكثر تركيزاً. تعلم في الكلية الفنون الجميلة على أيدي رائدي الأكاديمية أحمد صبري ويوسف كامل. لم ترسخ في أعماقه سوى تعاليم حسين يوسف أمين. إلا أن الدراسة الأكاديمية المعتمدة على المحاكاة زودته مخزوناً من صور الطبيعة وقراءاته الغزيرة في الفلسفة وعلم النفس والمعارف العامة لسنوات طويلة ومنحته أسلوباً حضارياً للتفكير. من هذا المزيج المتفاعل مع تجارب الحياة والجرأة والذكاء والموهبة تشكلت صور ذهنية نشاهدها في اعمال ندا الفنية، خاصة في لوحاته الأخيرة المفعمة بالحيوية والإثارة، معبراً فيها عن ذاتيته وفرديته فى إطار اجتماعي ثقافي عميق.

البيئة الشعبية

بدأت المرحلة الثانية في تطوّر ندا الفني في بداية الخمسينات مع انضمامه الى الجمعية الأدبية المصرية التي كانت تصدر مجلة «الثقافة» وكانت تضم بين محرريها طه حسين وسهير القلماوي وعز الدين إسماعيل والشاعر صلاح عبد الصبور. في هذه المجلة كُلف بتقديم الرسوم الداخلية والنقد الفني لها، فأنجز ما كان يرسمه في الأربعينات وما لا يقل عن ثلاثمائة رسم. حين أُغلقت المجلة في مايو 1952، حقق اكتفاء ذاتياً عبر إنتاجه ذاك الكم الهائل من الرسوم.

في 1951 أبدع ندا مجموعة لوحات ونال لها درجة الديبلوم من الفنون الجميلة، الى موضوع «الشعوذة» معبراً عن مظاهر الحياة الشعبية التي عاشها في طفولته ويجمع من خلالها الاتجاه الأكاديمي ونزعاته الفنية الذاتية. حفلت لوحاته بمظاهر السحر والدروشة وامتلأت الملابس والجدران بالرسوم الرمزية وزخارف الوشم على الأيدي الغليظة، مع العناية بالتشريح والظل والنور وإقحام العناصر الغريبة، ما أضفى على لوحاته طابعًا سوريالياً ظل ملازماً له حتى بعد انتقاله إلى تشكيلاته الحديثة التى لا يعتمد فيها على أفكار مسبقة، بلا عنوان أو موضوع، يدفعه شعور مبهم إلى سطح اللوحة فيضع عليها عنصرًا ما: إمرأة وقطة أو ساعة حائط وعصفورًا وغالبًا ما يتصور نفسه متقمصًا شكل قط أو عصفور أو ديك أو حصان، ثم تتوالى العناصر من علاقات منطقية مع واقع الحال، إنما في صور أقرب إلى الكوابيس تتسم بالشاعرية والطرافة والرهبة. تجسيد لخيالات ذاتية مستقرة في أعماقه قد لا يتبينها قبل أن تبدو لعينيه على اللوحة. ثمة علاقة بين عناصره الطبيعة لكنها تفتقد المنطق. كائنات غريبة وإن تكن ذات صبغة بشرية أو حيوانية حتى الأشياء غريبة من دونها.

حين تخرج ندا في الكلية الملكية للفنون الجميلة عام 1952 كان المشروع الذي رسمه «الشعوذة والعقائد السائدة الموروثة» تلك التيمات ظلت لفترات طويلة تسيطر عليه على نحو جعلها أسلوباً خاصاً به وحده. حبه للبيئة الشعبية كان من نتيجته الطبيعية أن اختار لمشروع البكالوريوس موضوع الشعوذة. بعد تخرجه عمل مدرساً للرسم في إحدى المدارس الابتدائية وكثيراً ما أشار ندا الى مدى تأثره برسوم الأطفال، فمنهم تعلم قيمة الجرأة في الفن، وإطلاق العنان للخيال الفني بعيداً عن القيود الاجتماعية والأكاديمية وزخرت أعماله الفنية بما تحويه من «شقاوة وبراءة» فنونهم وعفويتها.

تقول إيناس حسني ان ندا اعتمد على الاسلوب التعبيري في بداية حياته الفنية عام 1953 واشترك مع زميله الفنان الراحل عبد الهادي الجزار في كثير من الصفات الفنية، إذ بدأ ندا في تصوير عالمه مقتربا من الجزار ورأى في المشعوذين بداية قوى جذبته بشدة نحو «قهوة المجاذيب» في حارة الميضة «خلف مقام السيدة وعالم المشعوذين بذقونهم الطويلة وملابسهم الغريبة. كان هذا العالم يدور فى نطاق «اللاعقل» النقيض لديناميكية الفكر الإنساني العقلاني الذي اطلع عليه في الكتب الأدبية والفلسفية لنيتشه وشوبنهاور وهيغل وفرويد وبايرون وبودلير وكافكا وسترافنسكي وبيتهوفن وآخرين بينهم رواد الثقافة المصرية أمثال طه حسين وصلاح عبد الصبور ولويس عوض ويحيى حقي فكان يعمل معهم كرسام للموضوعات الأدبية حتى إغلاق المجلة عام 1952.

من العناصر التي صوّرها ندا أفراد الفرقة الموسيقية الشعبية: الطبال، الزمار، النحاسيات، الفونوغراف، الزير، كراسي المقاهي الشعبية الخشبية، المجاذيب، المرأة، القط، الزواحف التي كانت تعلق قديماً على مداخل البيوت، الديك، التمساح، صندوق الدنيا. بل كان عالم الاحتفالات الشعبية المضمار الذي يتبارى في إظهاره إنما ليس على صورة الواقع صنع منها نسيجاً خاصاً ومحوراً كيفما قادته حريته في التعبير. لعل أغرب علاقة بين تلك العناصر علاقة الرجل بالمرأة وعلاقة كل منهما على حدة بالموضوع الاستيتيكي الذي تبناه ندا. فبينما نجد المرأة متفجرة الأنوثة في أوضاع توحي الإثارة نجد الرجل محبطاً منكسراً وسلبياً، باهت الشخصية واللون ومشوهاً.

الأقصر

مرّ ندا في مرحلة أخرى أثرت كثيراً فى أعماله إذ أمضى عاماً مع بعثة داخلية في مرسم الفنون الجميلة في الأقصر عام 1956. هناك كان الاحتكاك المباشر مع كنوز الفن المصري القديم، ما أكسبه مزيداً من الإدراك لخصائص فنون الفراعنة من بقاء وخلود وألوان زاهية وحركة وتكوين. لعل لوحته «العمل في الحقل» توضح مدى تأثره بالفن الفرعوني بما تحويه من استعاضة عن «المنظور الهندسي» بتصفيف العناصر أفقياً من أسفل إلى أعلى، من دون تباين في الأحجام يفرق بين القريب والبعيد واختيار «وضع أمثل» للشخوص. خصائص تمتزج فيها فنون الأطفال مع فنون المصريين القدامى.

عام 1956 اقام ندا معرضاً في قاعة «كايرو آرت غاليري» في شارع عبد الخالق ثروت وكانت بداية مرحلة جديدة قال عنها الناقد الفرنسي فيليب دارشو: «في هذا المعرض بدا حامد ندا يضع يديه بثقة ويكتشف سحر الشكل كبداية للمرحلة الصعبة». عام 1957 عاد ندا للعمل في التدريس في كلية الفنون في الإسكندرية وتوقف عن الإنتاج الفني لسنة. ومع بداية عام 1959 عاد لممارسة الفن بحماسة ونضج وكانت بداية تحول في مساره الفني بدأه بلوحة «فرح عزة» التي نالت جائزة بينالي الإسكندرية في العام نفسه.

عام 1960 سافر ندا إلى أسبانيا ليدرس التصوير الجداري والتصاميم في أكاديمية سان فرناندو في مدريد ليتحقق له الإمساك بتلابيب التقنية اللونية. وربما كان تأثره بفنون البدائيين وفناني الكهوف الذي ظهر في الكثير من أعماله وتحليلاته للجسم الأنثوي من ثمار تلك الرحلة الأسبانية. في الستينات ركز على رسم الحيوانات والمراكب والكواكب والنجوم. برز الرمز في أعماله وزاد استخدامه للون الرمادي نتيجة تأثره بتحول المجتمع نحو الصناعة والجو الرمادي الذي كان يسود العالم في هذه الفترة فكانت لوحاته «أفريقيا والاستعمار» و»كينيا والاستعمار» و»هيروشيما» و»الحرب والسلام». شهدت هذه المرحلة أيضاً ومضات فنية ذات طابع تعبيري مباشر. بدأ يميل إلى الاقتصاد الشديد في اللون حتى أصبح أقرب إلى الأسود والأبيض بتنغيمات شفافة وأشكال مبهمة، في حين عاد إلى تكتيل الأجسام وترسيخها بأقل الألوان الممكنة، كي تصبح عزفاً على لون واحد كثيراً ما هو الأزرق أو الرمادي.

الكهرباء

في الخامس والعشرين من ابريل 1990 انقطع التيار الكهربائي عن مصر بسبب عاصفة رملية ضربت المولد الرئيسي في السد العالي. في تلك الساعة كان الفنان حامد ندا وحيدا في محترفه في مبنى وكالة الغوري العتيق فخرج متلمساً طريقه في الظلام لتخونه احدى درجات السلم ويرتطم رأسه بحافة درجة أخرى ويظل ينزف لساعات قبل أن يكتشفه أحد. كان أصيب بشلل نصفي ومات بعد أيام.

حامد ندا واحد من فنانين قلة توحدت شخصيتهم بفنهم فلا ازدواجية بينهما. كان يرسم تحت شعار «العمل الذي يخلو من السوريالية عمل ناقص».

اللون الأبيض

احتل اللون الأبيض مكانة رئيسية في لوحات ندا بعد حرب 1967، المرحلة التى رأى الناقد عز الدين نجيب أنها استمرار للمرحلة الغنائية، من حيث تركيزها على السطح التصويري الديناميكي وإن كان يخطو خطوة جديدة بالنسبة الى كتل الأجسام والأشكال، إذ عمد إلى تفتيتها وإطلاقها من عنانها المنطقي، محاولاً إيجاد إيقاع أكثر بدائية وعنفاً كطبول أفريقية وموسيقى الجاز. أصبحت الغلبة هنا للعناصر الزنجية من أقنعة وأشكال محرفة ويلعب دور البطولة معها عنصران جديدان لم يستعملا من قبل: الأول حروف الكتابة العربية، التي استخدمها الفنان كشخوص تتجاوز وتتحاور مع العناصر البشرية والثاني الحصان الذي اقتحم عالمه طائراً حاملاً على ظهره المرأة العارية النائمة في استسلام وأصبح هذا الثنائي (المرأة - الحصان) بطلين متلازمين في العديد من لوحاته في السبعينات وقد يشعر المرء بوجود شبح الموت في أعمال ندا. يبدو ذلك من خلال إيحاءات غاية في الرقة، مثل نبات أجرد على حافة أفق صحراوي يتلاشى في المجهول، بل لعله يبدو أيضاً في جسم المرأة المستلقية على ظهر الحصان بعينيها المتسعتين في ذهول وفزع من شبح الموت.

عام 1973، عاد ندا الى الموضوعات الشعبية من جديد. عادت الألوان المرحة واستخدام أسلوب التعبير عن المادة فالبحر يعبر عنه باللون والملمس. من لوحاته في تلك الفترة لوحة «صندوق الدنيا».

في لوحته «الصرخة» (1984) يرمز إلى تعبير بشكل ميكانيكي يشبه الإنسان الآلي. رسم على صدره أشكالا حيوانية في تكوين درامي تتداخل فيه الألوان مع الجو الأسطوري الذي انتهجه منذ بداية مشواره. أما هذا الشكل الميكانيكي الآلي في رسومه التي أبدعها عام 1985 في أحجام صغيرة نسبيًا فيبدو أنه يستعيد بها طفولته، أيام كان يهوى جمع النفايات والخردة وكان في الرابعة اذ كان يقتني الأسلاك وأدوات الكهرباء.

back to top