أسطورة الفصل

نشر في 19-11-2007
آخر تحديث 19-11-2007 | 00:00
لا ينبغي للأوربيين أن يتصوروا أنهم منفصلون، على نحو أو آخر، عن الضعف الذي تعانيه الولايات المتحدة والمحن التي تمر بها. فحتى وقت قريب، كان العديد من الأوروبيين يتصورون أنهم معزولون عن أزمة الإسكان والرهن العقاري الحالية في الولايات المتحدة، لكن الآن أصبحت حسابات الموازنة في العديد من البنوك الأوروبية ملوثة بهذا الداء، مثلها في ذلك مثل البنوك الأميركية.
 بروجيكت سنديكيت إن أنباء تباطؤ الاقتصاد الأميركي ليست بالأمر المبهج بالنسبة للأوروبيين، برغم المزاعم بشأن نجاح أوروبا في فصل نفسها اقتصادياً عن الولايات المتحدة. إن الفصل مجرد فكرة قائمة على فكر اقتصادي رديء وعلى كراهية بعض الأوروبيين لتقبل حقيقة، مفادها أن التوسع الاقتصادي القصير الأمد الذي تشهده أوروبا مقبل هو أيضاً على نهايته.

من المؤكد أن سوق الولايات المتحدة أصبح أقل أهمية بالنسبة للصادرات الأوروبية، بينما تعاظمت أهمية التجارة الآسيوية بالنسبة إلى أوروبا. لكن ماذا يعني هذا؟ إن التجارة ليست أكثر من رابطة واحدة بين العديد من الروابط الاقتصادية المهمة بين الولايات المتحدة وبلدان أوروبا. ففي ظل الاقتصاد العالمي المتشابك اليوم، قد تتفاقم حالة عدم اليقين بشأن الاقتصاد الأميركي ذات يوم، فيتسبب ذلك في انهيار ثقة المستهلك الهولندي، على سبيل المثال، في اليوم التالي.

إن الروابط بين أوروبا والولايات المتحدة أكثر تعقيداً مما قد يتصور المدافعون عن الانفصال. فمجلس الاحتياطي الفدرالي (البنك المركزي الأميركي)، على سبيل المثال، يلجأ إلى تخفيض أسعار الفائدة الرئيسية بصورة حادة سعياً إلى تجنب الركود الاقتصادي المحتمل. ونتيجة لهذا يرتفع اليورو ليس فقط أمام الدولار الأميركي، بل أمام العملات الآسيوية أيضاً، التي تتدخل بنوكها المركزية في أسواق صرف العملات الأجنبية بهدف تعديل قيمة عملاتها في مقابل الدولار.

وهذا من شأنه أن يلحق الضرر بالصادرات الأوروبية سواء إلى الولايات المتحدة أو آسيا. وتقليص اعتماد أوروبا على سوق الصادرات في الولايات المتحدة، لن يحمي أوروبا من التأثيرات المترتبة على تباطؤ اقتصاد الولايات المتحدة، إذا ما ارتفعت قيمة اليورو في مقابل العملات الآسيوية الرئيسية بالقدر نفسه الذي ارتفعت به في مقابل الدولار.

تفترض حجة الفصل أيضاً أن الركود في أميركا لن يؤثر على آسيا. وهذا محض هراء. فمن المؤكد أن الدخل في آسيا سوف ينخفض إذا ما انخفضت الصادرات الآسيوية إلى الولايات المتحدة، وهذا سوف يقلل بدوره من الواردات الآسيوية من أوروبا.

وعلى هذا فإن تباطؤ الاقتصاد في الولايات المتحدة يؤثر على الصادرات الأوروبية من جانبين. الأول، التأثير غير المباشر على الصادرات الأوروبية إلى آسيا، الذي قد يكون هائلاً، ذلك لأن سوق الولايات المتحدة يشكل قدراً عظيماً من الأهمية بالنسبة للصادرات الآسيوية. والثاني، التأثير المباشر على الصادرات الأوروبية إلى الولايات المتحدة.

وحتى إذا كان التأثير المباشر ضئيلاً كما يفترض المدافعون عن الفصل، فقد يسفر تباطؤ الاقتصاد في الولايات المتحدة عن تأثير ضخم في مجمل الأمر على الصادرات الأوروبية، بسبب التأثير غير المباشر الذي سيخلفه ذلك على الواردات الآسيوية من أوروبا.

إذاً، لا ينبغي للأوربيين أن يتصوروا أنهم منفصلون، على نحو أو آخر، عن الضعف الذي تعانيه الولايات المتحدة والمحن التي تمر بها. حتى وقت قريب، كان العديد من الأوروبيين يتصورون أنهم معزولون عن أزمة الإسكان والرهن العقاري الحالية في الولايات المتحدة. لكن فيما نستطيع أن نطلق عليه «تصديراً» خبيثاً من أميركا إلى أوروبا، خلقت الولايات المتحدة «ديناً فاسداً» في هيئة رهن عقاري ثانوي، فسارع الأوروبيون المتعطشون إلى المزيد من العائدات، الذين لا يقلون طيشاً عن الأميركيين إلى شراء ذلك الدين. والآن أصبحت حسابات الموازنة في العديد من البنوك الأوروبية ملوثة بهذا الداء، مثلها في ذلك مثل البنوك الأميركية، ولا أحد يستطيع أن يجزم من يحتفظ بـ أو يخفي هذا الدين الرديء، أو كيف يمكن تقييمه.

وهذا هو السبب الذي يجعل البنوك الأوروبية الآن محجمة عن تداول القروض فيما بينها. فهي تخشى أن تذهب قروضها إلى مؤسسة تعاني متاعب مالية خطيرة.

إنه لمن الصعب أن نتخيل ألا يؤدي رفع أسعار الفائدة وتقليص أرصدة الائتمان المتاحة، إلى إجهاد الاقتصاد الأوروبي على الإجمال. وبرغم ذلك فهذا هو الموقف الذي يتبناه البنك المركزي الأوروبي على وجه التحديد، حيث يتعامل مع منطقة اليورو وكأن قطاعها المالي منفصل على نحو ما عن بقية القطاعات الاقتصادية، بل ويتبنى سياسات نقدية مختلفة لكل قطاع على حدة في الوقت ذاته.

فمن خلال ضخ السيولة الممكنة كلها التي يحتاج إليها القطاع المالي لتخفيف أزمة الائتمان، يعمل البنك المركزي الأوروبي بصورة فعّالة على صيانة التعديل الانكماشي للقطاع المالي وعلاجها، بينما يعلن عن ميل تضخمي يعتري بقية قطاعات الاقتصاد.

الحقيقة أن هذه السياسة النقدية المتناقضة مع نفسها ليس من الممكن أن تستمر لمدة طويلة. فمن المرجح أن يتخلى البنك المركزي الأوروبي عن التعديل الانكماشي، حيث ستؤدي التأثيرات المترتبة على الأزمة المالية، فضلاً عن تباطؤ الاقتصاد في الولايات المتحدة، إلى إصابة الاقتصاد الأوروبي بحالة من الحيرة التي لا يستطيع حتى البنك المركزي الأوروبي الدائم التفاؤل أن ينكرها. وهذه النتيجة من شأنها أن تحجم من المخاوف الأوروبية بشأن التضخم.

حتى وقتنا هذا، مازالت الحجج المدافعة عن الفصل، سواء كانت معنية بالعلاقات بين أوروبا والولايات المتحدة، أو بالقطاع المالي الأوروبي وبقية القطاعات الاقتصادية، ترمي إلى تحقيق غرض واحد، ألا وهو إنكار المخاطر الحقيقية التي تهدد التوسع المستمر للاقتصاد الأوروبي. ومما لا شك فيه أن بعض هذه الحجج ليست أكثر من أماني واهمة من جانب أشخاص غير محنكين اقتصادياً. وبطبيعة الحال، هناك من تحركهم مصالحهم الخاصة.

ذلك أن الاقتصاد القوي ييسّر من مهمة الصقور في البنك المركزي الأوروبي، التي تتلخص في تمرير رفع أسعار الفائدة وتبريرها. وهذا من شأنه أن ييسّر بالتالي بيع الأسهم والسندات وما إلى ذلك من أدوات الاستثمار الأخرى. كما ييسّر الاقتصاد القوي مهمة الساسة في الترويج لسياساتهم، والترويج لأنفسهم، والترويج لأحزابهم.

ولكن لا ينبغي للمواطن الأوروبي العادي أن ينخدع بهذا. ذلك أن مجرد ظهور مثل هذه الحجج المنادية بالفصل يشكل تحذيراً لابد أن يثير مخاوفهم بشأن الأداء القوي المستمر للاقتصاد الأوروبي. ذلك أن أصحاب المصالح الخاصة ما كانوا ليضطروا إلى الترويج لمثل هذا الهراء لولا شعورهم بعدم الثقة في مستقبل الاقتصاد الأوروبي.

* ميلفين كراوس | Melvyn Krauss ، كبير زملاء معهد «هووفر» في جامعة ستانفورد.

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top