الملائكة... وشعراء العراق

نشر في 28-06-2007
آخر تحديث 28-06-2007 | 00:00
 محمد سليمان  رحلت بعد أن غنت وحلمت وكتبت قصائد حماسية عن فلسطين والعروبة، وبعد أن رأت وعاشت كل انكساراتنا وهزائمنا التي عبأتها باليأس والاكتئاب والأسى.

رحلت الشاعرة العراقية الرائدة نازك الملائكة التي فتحت الأبواب، قبل ستين سنة، لتجديد القصيدة العربية عندما كتبت ونشرت قصيدتها الكوليرا عام 1947، متخذة من التفعيلة وحدة بنائية وأساساً للتشكيل الشعري، ومعلنة في ذلك الوقت ظهور ما سُمي بعد ذلك بقصيدة التفعيلة وحركة الشعر الحر.

كانت هناك في الوقت نفسه محاولات لخلخلة الشكل العمودي والخروج عليه وابتداع أشكال شعرية جديدة؛ منها جهود لويس عوض في قصائد مجموعته «بلوتلاند»؛ ومحاولات بدر شاكر السياب في مجموعته «أزهار ذابلة» التي صدرت في القاهرة عام 1947.

بالإضافة إلى الإبداع الشعري، انشغلت نازك الملائكة بالتأصيل النظري للشكل الجديد وبالكتابة عن قضايا الشعر في الستينيات، واصطدمت ببعض زملائها الشعراء عندما حذرت من الفوضى والإيغال في التجريب، خاصة بعد ظهور قصيدة النثر وانحياز عدد كبير من الشعراء الشبان في ذلك الوقت إليها وتواري القصيدة العمودية التي لم تتخل عنها الشاعرة تماماً، ولم تعتبرها شكلاً ميتاً.

أصدرت نازك الملائكة العديد من المجموعات الشعرية منها «عاشقة الليل – شظايا ورماد – قرارة الموجة – شجرة القمر- الوردة الحمراء – يغير ألوانه البحر»، بالإضافة إلى مجموعة قصصية وكتاباتها النقدية.

في قصائد نازك يطفو الحس الرومانسي والانشغال بالوجود وقضاياه الموت، الاغتراب، اليأس، التشظي والبحث الدائم عن الملاذ والسلام في واقع تتسارع أحداثه وتحولاته وكوارثه، التي حاصرت الشاعرة وأطاحت بقدرتها على المقاومة وألجأتها إلى الصمت والانزواء في النهاية

«لا شيء يمنحني السلام

أبقى أسائل والجواب

سيظل يحجبه السراب

وأظل أحسبه دنا

فإذا وصلت إليه ذاب»

لم تكن نازك الملائكة مغرمة كبعض شعراء جيلها بحمل الرايات السياسية وترديد الشعارات، ومن ثم الانضمام إلى شلل أو جماعات، فظلت وحدها دون أتباع أو مريدين يستفزون مواهبها وقدراتها ويعملون على تسليط الضوء عليها ويدفعون بها إلى الواجهة. فلاذت بالعزلة والتفت بالظلال وظُلمت، ربما لأنها إمرأة.

وعلى مدى ربع قرن لم أرها في القاهرة، التي كانت تعشقها، مدعوة كشاعرة رائدة في مؤتمر أو مهرجان شعري أو مرشحة لجائزة ما. وبسبب الظلال والنسيان أشيع في أوائل التسعينيات أنها توفيت ونشرت مجلة أدب ونقد في ابريل 1992 مقالة للشاعر حلمي سالم بعنوان «رحيل نازك الملائكة».

بسبب الخراب والدمار خرجت نازك الملائكة من العراق عام 1990 لكي تكتمل دائرة الاغتراب، ولكي تموت في القاهرة بعيداً عن وطنها كزميليها بدر شاكر السياب الذي مات في الكويت، وعبد الوهاب البياتي الذي عاش في المنافي ومات في سورية، وكأن العراق الذي كان أباً للشعر ولشعراء العربية الكبار، والذي منحنا المتنبي – أبا تمام – البحتري – ابن الرومي – بشار وأبا نواس وغيرهم، والذي انطلقت منه قديماً وحديثاً حركات التجديد، صار يكره الشعر ويطارد الشعراء.

ويكفي أن نعرف أن معظم شعراء العراق يعيشون في المنافي منذ أعوام طويلة وقد فوجئت عام 1994 عندما زرت أمستردام للمشاركة في مهرجان الشعر العربي والهولندي بأكثر من خمسين شاعراً عراقياً يعيشون في أوروبا، فارين من قسوة الواقع العراقي وجحيمه. وقد تضاعف العدد في السنوات الأخيرة بسبب الحروب والصراعات الطائفية والقتل العشوائي الذي أجبر ملايين العراقيين على الفرار من وطنهم، وأعتقد أن المؤسسات والهيئات الثقافية العربية أصبحت الآن مسؤولة عن شعراء وكتّاب العراق الذين شردوا.

عن أربعة وثمانين عاما رحلت نازك الملائكة بعد أن فتحت للشعر العربي أبواب التجديد عام 1947، وبعد أن غنت وحلمت وكتبت قصائد حماسية عن فلسطين والعروبة، وبعد أن رأت وعاشت كل انكساراتنا وهزائمنا التي عبأتها باليأس والاكتئاب والأسى ...هل كانت ترثي نفسها عندما كتبت قصيدتها «مرثية امرأة لا قيمة لها» ؟

كاتب وشاعر مصري

back to top