الرأسمالية أم الديمقراطية؟
تأليف: مارك فلورباييهعن الدار العربية للعلوم ناشرون
ما هو خيار القرن الحادي والعشرين لمجتمعنا البشريّ، هل هو في استمرار سيطرة الرأسمالية المظفرة على كل الأمم، أم هو في ديمقراطية صحيحة تسعى الى تطوّر اجتماعي حقيقيّ؟ سؤال محرجٌ يطرحه الباحث الفرنسي مارك فلورباييه ويجيب عنه عبر دراسة علمية تنطلق من إعادة تأسيس المساواة وتعميق الديمقراطية للوصول الى العدالة الاجتماعية.خطأ التكهناتتوقّع الباحثان ريكاردو Ricardo ومالتوس Malthus نهاية قريبة للرأسمالية نتيجة استهلاك أرباح الانتاج وتجاهلا الطاقة التي لا تنضب للتطوّر التقني. كما دعا ماركس الى إسقاط النخبة الرأسمالية وتجريدها من قوّتها بواسطة جماهير البروليتاريا الفقيرة، لكنه لم يتصوّر أن الدولة المنقذة قادرة على تخفيف معاناة الجماهير واستيعابهم ضمن نمط من الشراكة. ووعدت الشيوعية بإنقاذ المجتمع من ربقة الرأسمالية الطاغية وإذا بها تنهار وتشلّ معها مفكّريها الذين لم يعد لديهم الجرأة على طرح البديل.تضمنت هذه التحليلات والأفكار عناصر كثيرة مناسبة، لكنها كانت تتقاسم ايضاً تشاؤماً قوياً في ما يتعلق بقدرة اقتصاد السوق على التجدّد والاستمرار، رغم ان هذا الاقتصاد المتحرر مصدر كثير من الآفات بسبب تدميره للموارد الطبيعية وازدياد النشاطات المافياوية وتفجّر الفوارق المجتمعية. يمكن للدولة وحدها التحسُّب للأزمات الأشد قسوة والتغلّب عليها كي لا يتحوّل اقتصاد السوق الى اقتصاد مؤمّم او الى اقتصاد اشتراكيّ.اقتصاد السّوقلن تكون الاشتراكية من دون أدنى شكّ خليفة الرأسمالية. فما هو شكل المجتمع المستقبلي إذن؟ قبل ستين عاماً كتب شومبتر عن اعتماد اليساريين الاميركيين مصطلح «الليبرالية» خوفاً من كلمة «اشتراكية» التي تستحضر الى الأذهان كلمة «الشيوعية» وتحوّلوا اليوم الى البحث عن يافطة أخرى إذ أضحت عبارة ليبرالي تعني الفكر التسامحي. من ناحية أخرى، حلّت عبارة «اقتصاد السّوق» مكان كلمة «الرأسمالية» التي لم تبق مستخدمة إلاّ في خطاب اليسار المتطرّف لتشير الى التزام سياسي خاص.لكنّ هذه النظرية الجديدة التي تجعل للسوق مكانة مرموقة في الاقتصاد غير بريئة على الإطلاق إذ وضعت تنظيم الانتاج تحت السلة المطلقة لأصحاب الرساميل. فهناك سوق للعمل ضمن الاقتصاد الرأسمالي حيث يوظف الرأسمال العمل لوضعه تحت سيطرته. هذا هو العنصر الرئيسي المرتبط حكماً بعناصر ثانوية اخرى، إضافة الى التوزيع غير العادل لملكية الرساميل والنفوذ الطاغي للمساهمين وأتباعهم على مجمل الحياة السياسية والاجتماعية. مع ذلك علينا أن نأخذ في الاعتبار ان قسماً كبيراً من الرساميل يعود من الآن فصاعداً الى صناديق التقاعد وليس الى العائلات البورجوازية الكبرى. كما ان نفوذ الاشتراكيين والليبراليين اصبح واسعاً في السياسة والثقافة، لكنّ الاقتصاد لم يتوقف عن كونه رأسمالياً بمعظمه.يتساءل الباحث الفرنسي ج.ب فيتوسي في كتابه «الديمقراطية والسوق» : «هل نعتقد اليوم أن الرأسمالية انتصرت على الاشتراكية؟ ربما هذا صحيح فالتاريخ يحسم ذلك، لكن لا يمكننا بأيّ حال التأكيد على الدفع الديمقراطي. وبمعنى آخر هناك بحث دؤوب عن أشكال أرقى للعقد الاجتماعي».الدفع الديمقراطيإن الإقرار باقتصاد السوق أفقاً لا يمكن تجاوزه لا يلزم مع ذلك بالتخلي عن أي تطوّر أساسي للمجتمع. فالدفع الديمقراطي المتواصل نحو المساواة هو ما يضع الرأسمالية في خطر ولا علاقة لاقتصاد السوق بذلك، وهو ما يزلزل البنى السلطوية للنظام بشكل مستمرّ. ورغم ان هذا الدفع يعكس الحاجة التلقائية الى الحكم الذاتي وكرامة البشر. عمل بشكل دائم عبر التاريخ من أجل هذه القيم. هكذا دخل المجتمع شيئاً فشيئاً عصر الديمقراطية وفيه تعميم الاقتراع العام خلال القرن العشرين. لم يكن ذلك الهدف النهائي بل مجرّد إشارة متواضعة أظهرت ضرورة المجتمع المعاصر الى الديمقراطية بطريقة لا رجوع عنها.إن الدفع الديمقراطي هو دفع نحو الحرية ونحو البحث عن حكم ذاتيّ. إنه يحمي دائماً حرية التبادل في وجه محاولات التسلّط. ومن المحتمل أنه سينتج انقلابات مهمة في الأنظمة المتسلّطة القائمة والتي لن تستطيع المقاومة الى ما لا نهاية أمام ضغط ثقافة تحلم بالتحرر والانفتاح.المساواة وإعادة توزيع الثرواتإن تحقيق العدالة الاجتماعية من أولويات الباحث للوصول الى نظام اجتماعي مثالي، لكن الجدال لا يزال قائماً مع خصوم هذه النظرية الذين يعتبرون ان الاولوية ليست للأكثر فقهاً. يمكن تحقيق مثل هذا الهدف بتوجيه كل السياسات العامة والإصلاحات القانونية والحركات السياسية المشككة في التقدم الاجتماعي.آفاق الديمقراطيةالمعلوم ان إعادة توزيع الإرث المادي والمالي على شكل ضريبة قاسية على الميراث يخلق مشكلة نتيجة آثاره السلبية المتعددة. يؤدي مثل هذا الامر الى عمليات هرب ضريبي كبيرة ويجازف بإحداث أضرار بالمدخرات. عوضاً عن مصادرة الثروات يفضل توجيه استخدامها في أعمال مرغوبة، منها تشجيع الهبات للمؤسسات، وذاك من حسنات النظام الاميركي، ومنع الورثة والمانحين من الحصول على مبلغ متراكم من الإرث والهبة طوال حياتهم يفوق حداّ معيناً. وترغم هذه الآلية الموصين على توزيع ثروتهم للأقلّ يسراً بطريقة غير مباشرة وتسمح ايضاً بإعادة توزيع للثروات من دون إلزام لعمليات تحويل التركة بشكل مفرط. عند ذلك يعتمد اتساع عملية التوزيع ببساطة على المبلغ الأقصى المحدّد، وكلما كان قريباً من المعدّل الوسطيّ للتركات المحولة كان التوزيع اكبر.المثال الديمقراطي هو وحده يقدّم آفاقاً للتطوّر الاجتماعي لعصرنا. لكن العديد من المراقبين يلاحظون تراجعاً للديمقراطية في سياق العولمة. وهذا لا ينفي حصول التغييرات المهمة في القرن الماضي نتيجة اعتماد الديمقراطية الطريق الثوروي الأمثل نحو التحرر والمساواة.لو أردنا توسيع آفاق الديمقراطية لكان ضرورياً ان نضع في صلب مشروع المجتمع الذي ننشده النضال ضدّ تمركز السلطة حتى لو كانت فكرية أو سياسية او اقتصادية. المبدأ الديمقراطي كفيل بتقديم الحماية المطلوبة ضدّ كل انحراف شمولي وقمعيّ ليصبح العصر الديمقراطي الجديد تحررياً وعادلاً على المستويات كافة.تذوّقإن المجتمع الذي يتطوّر حول تصور ديمقراطي يبتعد عن الرأسمالية بصراع قوي ضد التفاوت في الثروات والسلطة مع التخلي عن الاستبداد في دائرة العمل. مع ذلك، فإنه لن يشبه مطلقاً الاشتراكية المنشودة من قبل مؤسسي هذا التيار بما أنه لن يعيد وضع اللامركزية الاقتصادية واقتصاد السوق في موضع التساؤل تاركاً للدولة دوراً مماثلاً لدورها الحالي رغم وجود فوارق مهمة (عولمة بعض جوانب السلطة العامة، الحماية المركزة للديمقراطية في دائرة ضيقة). لكنه لن يقترن فعلياً مع الديمقراطية الاجتماعية إذ ان الاخيرة، في ترجمتها التقليدية كما في ترجمة الطريق الثالث، لن تتطرّق الى مساوئ السلطة التي تميّز الرأسمالية بل نكتفي باستحضار مرافقة اجتماعية لها.غير اننا نستطيع مع ذلك الحديث عن ديمقراطية - اجتماعية وربما تناسب هذه العلامة بالعمق المجتمع الديمقراطي الذي يرتسم في هذا المنظار. استندت الديمقراطية الاجتماعية التي تجسّدت في القرن العشرين في مؤسسات دولة الرعاية الى التسوية التالية: حافظ الحكام الاقتصاديون على الامتيازات، خاصة على مراقبة المؤسسات. لكن بالمقابل أعطت الأجراء ضمانات على صعيد الرواتب وظروف العمل والتسريح والحماية في مواجهة مخاطر الحياة (المرض، العائلة، الشيخوخة). إن هذه التسوية منظمة بشكل مركزي بإشراف الدولة او المؤسسات المساوية في التمثيل. ثبتت فاعليتها ليس في تأمين إعانة اجتماعية نسبية فحسب وإنما ايضاً لتثبيت الاقتصاد وتحريك النمو بفضل الآلية الكينزية Keynes بدعم الطلب التي ساهمت في تحريكها. يتعلق الأمر حينئذ بحل مربح لكل الاطراف القابضة. بدأ المستثمرون يدركون الحقوق الاجتماعية مثل تكاليف يمكن تخطّيها في السوق العالمي للإيداعات الأكثر فائدة. خسرت الألية الكينزية فاعليتها في الإطار الوطني مع الانفتاح والاندماج المتنامي للاقتصاديات.أضعفت النفقات المتزايدة لقطاعات البطالة والمرض والشيخوخة سبل التمويل لدولة الرعاية وأتاحت إعادة طرح مسألة «الامتيازات الحاصلة». يمكننا ايضاً التساؤل حول التأثير النوعي لحملة المحافظة في الولايات المتحدة وبريطانيا على تبدل تصرف الطبقات الحاكمة. مهما يكن، هي التي تنكّرت للتسوية الديمقراطية الاجتماعية وليس الأجراء الذين حاولوا ببساطة إيقاف انقراض حماياتهم.