مراجعات الجهاد – تحليل السياق والتساؤلات الحاكمة
يبدو أن جماعة «الجهاد» تراجعت عن العنف بعد أن أدركت محدودية المردود المتوقع من استخدام العنف وارتفاع كلفته. وأيقنت أن المجتمع المصري يرفض العنف وأن النخبة الحاكمة ومؤسسات الدولة لن تنهار على وقع سلسلة من العمليات المسلحة.أثارت مراجعات جماعة الجهاد المصرية لسيد إمام (الشيخ فضل)، التي نشر حلقاتها خلال الأسابيع الأخيرة من العام المنصرم في «الجريدة»، نقاشات واسعة حول واقع الحركات الإسلامية الراديكالية والحدود الفاصلة بين الحقيقة والخيال حين استشراف مستقبل ظاهرة العنف الديني بين ظهرانينا.وقناعتي أن هناك ثلاثة تساؤلات حاكمة للمراجعات وتداعياتها على جماعة الجهاد وظاهرة العنف الديني في مصر: ماالسياق الذي تتراجع به حركات أيديولوجية عنفية عن استخدام العنف وتتحول إلى حركات سلمية تمارس العمل العام وربما العمل السياسي؟ هل يمكن الحكم على مدى جدية المراجعات ومساحات المبدئية والتكتيك بها وصولاً إلى حكم قطعي؟ وما مستقبل الجماعات المتراجعة وسيناريوهات تطورها؟فمن جهة أولى، يبدو أن جماعة الجهاد تراجعت عن العنف بعد أن أدركت محدودية المردود المتوقع من استخدام العنف وارتفاع كلفته. أيقنت الجهاد أن المجتمع المصري يرفض العنف وأن النخبة الحاكمة ومؤسسات الدولة لن تنهار على وقع سلسلة من العمليات المسلحة. وتواكب ذلك مع تعاقب أجيال الفاعلين داخل الجماعة وتنوع ساحات فعلهم داخل مصر وخارجها وبالتبعية خبراتهم على نحو دفع فصيلاً منهم إلى التساؤل عن جدوى العنف والبحث في إمكانات ترشيد الجهاد كما عنونت وثيقة سيد إمام. من جهة ثانية، لا تتجاوز أهمية ثنائية المبدئية والتكتيكية حين النظر إلى المراجعات حدود المقاربات غير المنهجية واختبارات النوايا المدفوعة بحسابات أيديولوجية. فالأمر هنا يفترض نظرة «ستاتيكية» للجماعة العنفية المتراجعة، بل للمجتمع، وكلاهما يثبت في لحظة بعينها ولا ينظر إليه في صيرورته التطورية. ويدلل العديد من الخبرات العالمية المشابهة على أن بدايات التراجع عن العنف قد تكون تكتيكية ثم ما تلبث أن تتحول إلى موقف مبدئي، في حين تعبر خبرات أخرى عن إمكانات تداخل المبدئي والتكتيكي منذ اللحظات الأولى لممارسة جماعات العنف للنقد الذاتي. المهم إذن هو النظر إلى سياقات التراجع المحددة ثم البحث في تداعياتها من دون إضاعة الوقت في محاولة جوفاء للإجابة عن تساؤل غير منهجي.من جهة ثالثة، يمكن حين التدبر في التداعيات المحتملة لتراجع جماعات كالجهاد عن العنف الإشارة إلى نمطين متقابلين تمركز حولهما جل الخبرات العالمية: نمط حركات العنف اليساري التي تبلورت في مجتمعات أوروبا الغربية خلال النصف الثاني من الستينيات والسبعينيات ونزعت، كالألوية الحمراء الإيطالية وبادر ماينهوف الألمانية، إلى استخدام العنف ضد النخب الحاكمة في سياق نقد يساري لهمينة الرأسمالية على المجتمع، ونمط حركات التحرر الوطني كالمؤتمر الوطني الأفريقي في جنوب أفريقيا والجيش الجمهوري الأيرلندي وحركة «فتح» الفلسطينية التي مارست العنف في سياق السعي نحو تقرير المصير. معظم الحركات المنتمية إلى النمط الأول توارت تنظيمياً بعدما أثبتت نخب الحكم كفاءة في مواجهة عنفها وأحكمت الخناق عليها، في حين نجح بعض عناصرها من القيادات الوسيطة في تطوير نبذ العنف إلى موقف مبدئي ووجدوا لأنفسهم مواقع مختلفة داخل منظومات العمل العام، بل العمل السياسي كما في حالة حزب الخضر الألماني. أما حركات التحرر الوطني فقد ارتبط نبذها للعنف إن مع الممارسة الناجحة لحق تقرير المصير (جنوب أفريقيا وأيرلندا) أو مع الوعد بالاقتراب من تلك الممارسة حال التخلي عن العنف (فتح).تبدو جماعة الجهاد، ومن قبلها الجماعة الإسلامية التي أنجزت مراجعاتها في التسعينيات، أقرب إلى النمط الأول، أي أن الجماعة مرشحة للاختفاء التام كإطار تنظيمي، خصوصاً بعد نجاح السلطات المصرية في توجيه ضربات موجعة لها خلال العقدين الماضيين. يرتبط التساؤل الجوهري هنا بمدى حضور أو غياب فرص قيادات وعناصر الجهاد، التي أقرت نبذ العنف، للممارسة السلمية للعمل العام والبحث عن موضع قدم جديد في المجتمع يعمق، إن تحقق، من التزام نبذ العنف. وحدها نخبة الحكم هي التي تملك هنا فك رموز الشفرة.* كبير باحثين بمؤسسة «كارنيغي» – واشنطن.