الجنرال وحافة الهاوية
قرأت قبل سنوات طويلة في قصةً للكاتب البريطاني «سومرست موم» كيف كانت العربة تندفع بالحصان بقوة وهي محمّلة بثقلها من أعلى الجبل، وكلما دفع الثقل العربة ركض الحصان بأقصى ما يمكن لكي لا تصطدم عجلات العربة بقدمه ويتعثر، فكان الثقل يدفع بقوة الحصان نحو الهاوية، فيندفع بقوة خارج توازنه المعتاد في الجري، لكي يتحاشى السقوط من عثرة العجلات، فكان لابد من أن يندفع من فوق قمة الجبل العالي بقوة تخل بتوازنه، فكان مصيره السقوط في الهاوية.اليوم تتداعى الأحداث في باكستان، كما هي قصة الحصان والعربة عند «سومرست موم»، فقد وجد الجنرال مشرف نفسه يتحرك نحو حافة الهاوية من دون أن يشعر بتسارع الأحداث وقوة الاحتجاجات، فهو بدلاً من أن يخفف سرعة وضغوط الشارع بلجم عنفوان مؤسسة الأمن والجيش وصقورها، نراه يتكئ عليها في معالجة الأزمة، بل يؤمن بممارساتها، فيدخل البلاد في حال الطوارئ مما يجعله محصوراً ومعزولاً في دائرة مغلقة اسمها سلطة الطوارئ، التي تقف على نقيض من حركة احتجاج الشارع الباكستاني ومطالبه الشرعية والدستورية، فإذا ما كان مشرّف في السابق عاجزاً عن السيطرة على لجام حصان الأطراف ومناطق الجبال والقبائل، بات اليوم عاجزاً عن السيطرة على أهم المدن والمراكز، بل فقد قدرته على التحالف مع أهم الأحزاب كحزب الشعب ومنظمات المجتمع المدني الذي يقود المحامون والقضاة والمثقفون والطلاب والشبيبة والنساء حركته، وازدادت الأحوال سوءاً وتعقيداً بعد مسألتين: الأولى، عودة بنازير بوتو ومحاولة اغتيالها وموت العشرات من تلك العملية وزعزعة الثقة بين الحليفين، والتي نراها كتبت في نص رسالة بوتو للرئيس الجنرال مشرف قبل عودتها إلى البلاد بأنها تعي التهديدات التي قد تمس حياتها وأمنها وبأنها تطرقت فيها للأيدي الخفية التي تتحمّل مسؤولية حدوث أمر مشؤوم، كما أوضحت أن هناك بعضاً من الأشخاص الذين حققوا مكاسب كبيرة من خلال الدكتاتورية، وأنهم أصبحوا من أصحاب النفوذ مع ظهور التطرف، حيث أوجدوا أماكن آمنة لكل من حركة طالبان والتنظيمات الأخرى في المناطق القبلية داخل باكستان، مؤكدة أن هؤلاء يخشون عودتها، طالبة تنحي هؤلاء خلال الأشهر الثلاثة المقبلة، والمسألة الأخرى، موت العديد في أحداث سوات، إذ تفجرت الأوضاع فأصيبت المؤسسة العسكرية بالانشقاق الداخلي في رؤيتها لمعالجة الأحداث، خصوصاً بعد تسليم الجنود سلاحهم للمنظمات الإسلامية في مناطق الجبال.إزاء هذه الأوضاع المتصاعدة، التي ساهمت بنازير بوتو في تضخيمها وتحريكها، استعداداً للانتخابات المرتقبة في منتصف فبراير 2008، وجدت بنازير أن التحالف والحوار مع مشرّف لا يلغي حق الضغط على الحكومة، لا سيما بعد تكشّف حقائق ما عرضته وناقشته في رسالتها مع الرئيس قبل العودة، وتطرقت إلى مراكز القوى الأمنية والعسكرية في حكومة مشرّف، وأنها تشكل حجر عثرة أمام بناء تحالف متين واضح لوجود تلك المراكز والشخصيات في حكومته، وزادت محاولة الاغتيال من قناعة الأطياف المعارضة لمشرّف بأن حكومته لا تتمتع بمصداقية في تعاملها مع حلفائها فما بالكم مع معارضيها؟! فجاءت حال الطوارئ نوعا من الجسر السياسي المستجد، الذي ساهم في إعادة تشكيل العلاقات والتحالفات بين صفوف المعارضة، فانتقلت بوتو بعد حال الطوارئ إلى صفوفها، محتفظة -كل الأطراف- برؤيتها للنظام وكيفية مواجهته، بينما خلقت الحال المتأزمة تقارباً عميقاً في موقف واحد محدد هو ضرورة رحيل برويز مشرّف من المسرح السياسي نهائياً، فتداعت الأحزاب في رسائلها وخطاباتها المعلنة والمغلقة، بأهمية بناء جبهة سياسية عريضة تستعجل إسقاط النظام ورحيله، عن طريق الاحتجاجات الجماهيرية الواسعة، حتى لحظة الانتخابات المنتظرة، فمن جهة تهيئ المعارضة الأرضية اللازمة للانتخابات باكتساح صناديق الاقتراع في حال بقاء مشرّف حتى منتصف فبراير، أو بدفعه إلى الاستقالة مبكراً حفاظاً على ماء الوجه من جهة ثانية. ما كان يتوقعه مشرّف من تحالفات داخلية ودعم خارجي من حلفاء تاريخيين تبخر بسرعة البرق مع حماقة إعلان الطوارئ في البلاد، وبدلاً من أن يتحصن مشرف بالديموقراطية والقانون والقضاء والدستور، وجدناه يحتمي بالطوارئ ويوسع من جبهة الأعداء والخصوم بدلاً من فتح نافذة على الأصدقاء والحلفاء الجدد من كل قوى المجتمع وشرائحه. وقد برهن التاريخ على أن حال الطوارئ ليست إلا المقصلة الأخيرة لعنق أي نظام، بينما كانت دائماً الديموقراطية الخيار الأمثل لديمومة أي نظام في معالجة الأزمة بهدوء وحكمة. ما جعل مشرّف يلجأ إلى الطوارئ مسألتان: الصقور الذين حذّرت منهم بنازير بوتو في رسالتها، واقتناع هؤلاء الصقور بأن حال الطوارئ تقطع الطريق حتى فترة الانتخابات على بوتو والآخرين، وحشد أكبر قدر ممكن من الجماهير الشعبية وضمان أصواتهم، إذ يسود بين بطانة مشرّف وأجهزته الطفيلية شعورٌ باقتراب رحيلهم بل إن محاكمتهم حان أوانها، فالنظام بات عند حافة الهاوية، وليس بإمكان الإدارة الأميركية ضمان حمايته، فيكفي المحافظين صداع الديموقراطيين في الداخل بشأن مسألة الحرب في العراق والتحذير منها مع إيران، فكلتاهما ورقتان لا تخدمان الدعاية الانتخابية القريبة والقادمة.ورطة الحليفين دائماً هي حقائق التاريخ وتبدل موازين القوى، والمفاجأة نجدها تارة في مزاج الشارع العام، وتارة في تآكل الأنظمة الفاسدة والعاجزة عن إدارة الحكم بحكمة.* كاتب بحريني