قضاء الله وقدره في العراق
عيبنا في العالم العربي أننا نتطلع إلى التغيير والتحرر من الدكتاتوريات التي تحكمنا من دون أن نكسر منظومة القهر التي تصاحبنا من الميلاد إلى الموت، علينا أن نعيد صياغة علاقتنا بالحرية، فنحن مازلنا رغم كلامنا الجميل عنها لا نحولها إلى ثقافة حياتية معاشة، علينا أن نعي أن المشاركة السياسية ليست فقط فرصة سياسية عابرة لتشكيل حياة سياسية جديدة.عندما تسأل عما يجري في العراق تسمع ردوداً من نوع: إنه قضاء الله وقدره، إنها إرادة الله أن يجتاح التتار الجدد عاصمة الأمين، مدينة النور، نسبة إلى مصابيحها الفكرية التي لا تُظلِم أبداً.الجميع بريد القضاء على الإرهاب والفوضى المستشرية في عاصمة الأمين، ولكنهم لا يعلمون أن القضاء عليها يجب أن يبدأ باصدار قوانين مدنية مرجعها حقوق الإنسان العادلة بين النساء والرجال والأطفال، وألا تكون محكومة بعصبة من المتطرفين حيث يقيّم الإنسان لا على إنسانيته، بل على مبدأ الشرعي واللاشرعي حتى لو كان الشرعي خارج نطاق حقوق الإنسان. لا أحد يمكنه أن ينكر الأهمية العظيمة والدلالات الإيجابية لمشاركة الناس في الحياة السياسية، هذا من الناحية النظرية. ولكن للواقع دائماً وضعاً آخر متناقضاً في أغلب الأحيان، فشعوب العالم الثالث تعيش حالة مزمنة من القهر والسلبية ولن تستيقظ فجأة يوم الانتخابات وقد امتلأت بروح الحرية والإيجابية والرغبة في التغيير وتكريس سلطة تعبر عن تطلعاتها. إن انعدام السلطة يعني الفوضى... والسلطة واجبة لمنع الفوضى، ومن الأحاديث التي تدل على ذلك: «الإمام الجائر خير من الفتنة»... والفتنه رديف الفوضى، والمبدأ الشرعي يقول: «إذا تعارض ضرران يجب تحمل الأدنى لدفع الأعلى»، وبالتالي يصبح قبول حاكم جائر أفضل من الفوضى وهذا هو مبدأ التكفيريين وهم يحاولون فرضه علينا حيث يحاولون إقناع الناس بأن ما كان أفضل مما حصل.إن وجود السلطة هو رأي الأكثرية من متكلمي الإسلام، وعند الشيعة الإمامة من أصول الدين وفي رواية عن جعفر الصادق «لو لم يبق في الأرض إلا اثنان لكان أحدهم إماماً». عيبنا في العالم العربي أننا نتطلع إلى التغيير والتحرر من الدكتاتوريات التي تحكمنا من دون أن نكسر منظومة القهر التي تصاحبنا من الميلاد إلى الموت، علينا أن نعيد صياغة علاقتنا بالحرية، فنحن مازلنا رغم كلامنا الجميل عنها لا نحولها إلى ثقافة حياتية معاشة، علينا أن نعي أن المشاركة السياسية ليست فقط فرصة سياسية عابرة لتشكيل حياة سياسية جديدة ولكنها أيضاً فرصة لتشكيل عقل عربي جديد ينبذ ميراث الكبت والقهر والخوف.إن كسر منظومة القهر وخلق مناخ الحرية الحقيقية، هو الضمان الأوحد الراسخ لديموقراطية ممتدة في أمور الحياة جميعها.مما يشجع الإرهاب في العراق الإمامة، أي السلطة، ولو من دون حق. ولقد تولد في العراق إرهابيون ينساقون إلى جرائم يذهب ضحيتها الكثير من الضحايا، فتلك الأيادي التي تمسك بالرشاش وتطلق النيران وتفجر القنابل وتذبح الأبرياء من المستهدفين حيث يخبئون عيونهم ويجعلونهم يقرؤون الشهادة أمام أسرهم على شاشات التلفزة، تتصف بثلاثة أشياء:خواء المعدة حيث يقف الجائع في طابور اليأس من دون أن يكون ما لديه ليخسره. خواء العقل حيث المحدودية الفكرية التي تجعل الإنسان يعتقد أنه يملك الحقيقة. خواء القلب حيث أشك بقدرة هذا الإرهابي على إقامة علاقة بامرأة. العراقيون أمام أحد خيارين: إما أن يأخذوا بمنهج النقل، منهج أهل الحديث، وهو منهج الاتباعي، وإما اتباعهم منهج العقل، وهو يضيف إلى تقبل النص واحترامه، إعمالاً للفكر واستنباطا للحكم واجتهاداً في تفسير النص. وهذا ليس أول امتحان يخوضه العراقيون فأول شهداء منهج العقل كان الإمام أبو حنيفه فقيه أهل العراق وإمام أهل الرأي، فهو الفقيه حيث إن ذلك لم يشفع له عند السلطة العباسية التي سقته السم وقتلته رغم أنه كان أول أئمة الفقه الأربعة والفقيه العاقل الذي فتح أبواب الفقه العقلاني في الإسلام.من الطبيعي أن يغلب المنهج النقلي على الطابع الفكري للتكفيريين حيث يتسمون بالجمود الفكري، أما أهل العراق فحري بهم أن يتبعوا إمامهم ابن حنيفة، فالعراق نشأت فيه خلافة ودولة ومجتمع كبير، حيث كان هناك نظم وأحكام، وهو بلد محاط بحضارات وثقافات عديدة، وتخلص المنصور من أبي حنيفة لأنه لم يحتمل معارضته لمشروعه المبني على منهج التسليم. ويقال إن المنصور رفع إلى الإمام أبي حنيفة كأساً مسمومة فامتنع وقال: «إني أعلم بما فيها ولا أعين على قتل نفسي»، فطُرح أرضاً وصُب السم في فمه قهراً وغصباً فمات. وها هو التاريخ يعيد نفسه وتُصب كأس السم هذه المرة في فم الشعب العراقي بالكامل ليموت العراق وتقوم مكانه دويلات عرقية وطائفية يحكمها منهج النقل لا منهج العقل.* كاتب كردي