أحوال مصرية

نشر في 14-09-2007
آخر تحديث 14-09-2007 | 00:00
 محمد سليمان

في دراسة أجراها مركز «صالح كامل الاقتصادي» بجامعة الأزهر، قُدر حجم زكاة المصريين وتبرعاتهم بما يوازي نحو 3 مليارات دولار أميركي، تجمعها جمعيات أهلية. وهذا المبلغ الكبير، أخذ يلعب، على مدار العقدين الأخيرين، برأس الحكومة ويدفعها إلى «التحرش» الدائم بهذه الجمعيات سعياً إلى وضع يدها عليها بزعم إقامة مشروعات لدعم محدودي الدخل.

في مقدمة العادات والفضائل يأتي التكافل الذي يجعل المجتمع المصري، رغم سطوة الفساد وقسوة الفقر وتوحش الغلاء والبطالة، مجتمعاً حياً ومتماسكاً وقادراً على الصمود والمقاومة واجتياز المحن واحتضان أكثر من أربعة ملايين من اللاجئين أغلبهم من السودانيين والأفارقة من دون تذمر أو شكوى.

التكافل الذي يجعل لجارك حقاً عليك وقدراً من طعامك إذا جاع، والذي يستند إلى الدين والتراث الشعبي ويجعل «اللقمة الهنية تكفي مية» و«الشبعان شيطان إذا جاع جاره»، والذي أيضا يقدس الخبز ويجعله مرادفاً للحياة «العيش»، وحقاً يكرسه الدين والحكم والأمثال والأغاني والحكايات الشعبية والخرافية.

وكان الشيوخ والكبار في القرى يحدثوننا في الطفولة عن القرد الذي كان في الزمن القديم إنساناً جميلاً وثرياً، لكنه تجبر ولم يشكر الله على نعمته فلم يُعن محتاجاً ولم يعطِ جائعاً أو جاراً، فعاقبه الله ومسخه قرداً كما سيعاقب الأثرياء الذين لا يعينون الفقراء والمحتاجين ولا يعرفون أن الله منحهم كل هذا الخير لكي يمتحنهم ويرى مدى شكرهم له وتقديرهم نعمه.

الدين والتراث الشعبي ما زالا يحرسان منظومة القيم النبيلة التي توجه المجتمع المصري وتحميه رغم التحولات كلها السياسية والاقتصادية العنيفة التي شهدها هذا المجتمع في الأعوام الأخيرة، وقد أتاحت لي مهنة الصيدلة ووجودي بين الناس سنوات طويلة فرصة أن أراهم وهم يتساندون ويتعاونون رغم فقرهم ودخولهم الهزيلة لكي يجمعوا أموالاً ليس لمساعدة الفقراء والمحتاجين والمرضى فحسب، بل لدفع الكفالات وتكليف المحامين أيضاً، من أجل الدفاع عن معتقلين أو مسجونين لُفِّقت لهم تهم أو أُجبروا بوسائل التعذيب الجهنمية في أقسام الشرطة على الاعتراف بارتكاب جرائم لا علاقة لهم بها ولا يعرفون عنها شيئاً.

ويتجلى هذا التكافل ويبلغ ذروته في شهر رمضان المعظم متخذاً أشكالاً ومظاهر عدة منها موائد الرحمن للإفطار التي تقام في الشوارع لمساندة المحتاجين والعاطلين وصغار الموظفين وعابري السبيل. وقد ظهرت هذه الموائد قبل ربع قرن ثم انتشرت وصارت ملمحاً رمضانياً يرصده ويشيد به الجميع. إضافة إلى هذه الموائد هناك المساعدات التي تقدم للأسر في شهر رمضان ومعظمها مواد غذائية وتموينية يتبرع بها قادرون وتوزعها جمعيات أهلية ومساجد.

تلك الجمعيات تستأثر بثقة المواطنين، وبالنصيب الأكبر من أموال زكاتهم وصدقاتهم، رغم الاعلانات الكثيفة التي تبثها مشيخة الأزهر وجهات رسمية أخرى عن استعدادها لتسلم زكاة المواطنين وتبرعاتهم وتوزيعها على المحتاجين والفقراء. ففي دراسة أجراها مركز «صالح كامل الاقتصادي» بجامعة الأزهر، واستند فيها إلى تقارير الجهاز المركزي للمحاسبات، قُدر حجم زكاة المصريين وتبرعاتهم بنحو 17 مليار جنيه سنوياً، أي ما يوازي نحو 3 مليارات دولار أميركي، تجمعها جمعيات أهلية ولا يصب في الجهات الرسمية سوى النزر الضئيل.

وهذا المبلغ الكبير، أخذ يلعب، على مدار العقدين الأخيرين، برأس الحكومة ويدفعها إلى «التحرش» الدائم بهذه الجمعيات والسعي بالسبل جميعها إلى وضع يدها على هذه الأموال بزعم إقامة مشروعات لدعم محدودي الدخل. وبالطبع لا يثق الناس كثيراً، ولا قليلاً، بحكومة تخصصت في هدم المشاريع وبيع كل شيء. ولا سيما أن كبار المسؤولين يتحدثون ليل نهار، ومنذ أكثر من عشرين عاماً، عن دعمهم الفقراء ومحدودي الدخل، وهو الدعم الذي تمخض عن توحش الغلاء والفساد وتصاعد المعاناة وتفاقم أزمة البطالة التي انتحر بسببها كثيرون في العام الماضي.

وأظننا نواجه الآن سؤالاً صعباً، وهو إلى متى تستطيع الجهود الشعبية والتقاليد النبيلة المحافظة على سلامة المجتمع وتوازناته بينما تعمد الدولة إلى الإفقار المتواصل لأغلبية المواطنين بسياساتها الاقتصادية ناسية أن هذا الإفقار يضاعف باستمرار أعداد العاجزين والمحتاجين ويشل بالتالي فاعلية التكافل والقيم النبيلة الأخرى جميعها التي تحمي المجتمع والنظام نفسه وتساعده على البقاء؟!

* كاتب وشاعر مصري

back to top