شهداؤنا... وقتلانا

نشر في 30-06-2007 | 00:00
آخر تحديث 30-06-2007 | 00:00
 ياسر عبد العزيز «استشهاد أربعة فلسطينيين ومقتل ثلاثة آخرين في غزة». نعم هذا ما ظهر على شريط الأنباء المتحرك News Bar أسفل شاشة تلك القناة التلفزيونية الشهيرة؛ فقد استشهد أربعة فلسطينيين بنيران إسرائيلية، لذلك فقد حق وصفهم بالـ «شهداء»، بما يستتبعه هذا من إضفاء المكانة والقداسة واعتماد الأجر والثواب في الدنيا والآخرة. أما الثلاثة الآخرون، فقد قتلوا في اشتباكات بين «فتح» و«حماس»، وهي محصلة لاقتتال أهلي غير جائز، ومن ثم فإن ضحاياه حرموا تلك المنزلة التي تمتع بها زملاؤهم.

لقد أخطأت القناة هنا، هي ومن يحذو حذوها من وسائل الإعلام كلها، إذ نصّبت نفسها في موضع فوق بشري، وامتلكت أسراراً لا يعلمها إلا الله، ومنحت صفات ونسبت أدواراً لأطراف الأحداث المختلفة، ومن ثم قيّمت تلك الأطراف، لتنزل بعضها منازل الجنة، وترسل البعض الآخر إلى النار، أو تبقيه قيد الشك والتأويل.

تلك هي اللعبة الأسهل والأرخص في الإعلام منذ نشأ: بناء الصورة Image Frame؛ فالعالم سهل التصنيف إلى أقصى درجة من وجهة نظر هؤلاء الذين يبرعون في تلك الممارسات غير المهنية. فهناك الأخيار، الأبطال، الشرفاء، المناضلون، المكافحون، والذين إن قتلوا منحوا لقب «الشهداء». وهناك الأشرار، الجبناء، الإرهابيون، المخربون، والذين إن قتلوا في أحد معاركهم، أو حتى في بيوتهم، لم يحصلوا سوى على صفة «القتلى».

لقد صار علينا أن نفرق اليوم بين شهدائنا وقتلانا، وأن نضع الحدود الفاصلة بين كل قتيل لدينا وآخر، بصرف النظر عن أن القرآن الكريم نفسه استخدم لفظ القتل في معرض وصف الموت في سبيل الله. فقد قال الرحمن في محكم كتابه: «ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون»، كما قال عز وجل: «وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين».

لكن معظم وسائل الإعلام العربية ترفض التعاطي بهذا المنطق، وتنزع إلى قولبة العالم وتصنيفه وتنميطه Labeling، بغرض تحقيق الأهداف غير المهنية للسياسة التحريرية Editorial Policy، التي هي في معظم الأحيان ترجمة لمصالح المالك/الممول ورؤاه.

ليس إطلاق الصفات ونسب الأدوار مثل «شهيد» و«إرهابي» أهم الأخطاء المهنية التي تتم ممارستها في المنظومة الإعلامية العربية، بل على العكس ثمة أخطاء أخرى عديدة ومتنوعة وأكثر صعوبة سواء عند تنفيذها أو عند كشفها، لكن ما يجعل مسألة «التنميط» ذات أهمية كبيرة أنها الأكثر تأثيراً في عقول البسطاء وصغار السن.

لكن هؤلاء عندما يكتشفون زيف ما روجته وسائل الإعلام عن شخص أو جماعة أو دولة بعينها، وحينما تظهر لهم حقائق جديدة كانت غائبة أو مغيبة، أو يتعرضون لوسيلة إعلام أخرى أكثر احترافية، فإنهم يفقدون ثقتهم تماماً في المنظومة الإعلامية التي أشبعتهم تنميطاً للآخرين، وقد ينقلب الأمر ويتخذ اتجاهاً عكسياً؛ فيترجم الجمهور هجوم الإعلام على شخص ما على أنه دليل إلى صحة مواقف هذا الشخص، والعكس صحيح.

بالطبع يمارس الإعلام الغربي، مثل منظومات الإعلام في العالم كلها، أنماط الانحياز معظمها، لكن ثمة وسائل إعلام غربية تعرف أن اقترابها من الممارسة الموضوعية، وانتهاج أقصى درجة ممكنة من الحياد يحقق مصالحها في احتلال مكانة متقدمة بين وسائل الإعلام المنافسة.

ثمة وسائل إعلام غربية تعرف أن كل من حارب باستخدام الأخبار باء بالخسارة، لذلك هي تسعى إلى تكريس الحياد والإثابة عليه، وإلى تحجيم الانحياز والمساءلة في شأنه، ولذلك فتلك الوسائل تحظى بصدقية كبيرة حول العالم، حتى لدى هؤلاء الذين يناصبون كل ما هو غربي العداء.

فوكالة أنباء «رويترز» على سبيل المثال منعت استخدام لفظ «الإرهابيين» في وصف المشتبه بهم في أحداث 11 سبتمبر، وشبكة «سي إن إن» من جهتها، لم تصف أبو مصعب الزرقاوي أو أسامة بن لادن بأنهما «إرهابيان».

تقول الآية الكريمة: «لا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى»، ويبدو أن هذا المعنى بالضبط كان وراء عدم إطلاق صفة «الإرهابيين» على هؤلاء المشتبه بهم في أحداث 11 سبتمبر، فنحن لم نسمع دفاعهم عن أنفسهم على أقل تقدير، فضلاً عن أننا لم نتثبت من أنهم فعلوا ما فعلوا، أو فعلوه وهم يدركون ما هم مقدمون عليه.

الأمر ذاته يجب أن ينسحب على ذلك الذي يتمتع بصفة «شهيد»؛ فنحن لم نعرف تماماً لماذا أقدم على ما أقدم عليه، ولسنا في موقع يسمح لنا بتمييز نياته، أو انعكاسات ما فعل على مصالح جماعته أو أمته.

سوف نواجه مشكلات صعبة وكثيفة فيما هو قادم من أيام، ففوق كل أعباء العمل الإعلامي سنكون مضطرين للعب أدوار تفوق احتياجاتها قدراتنا؛ فالقتلى كُثر، والمعارك مختلطة، والرمادي يتسع حتى لم يعد هناك مكان واضح للأسود والأبيض، ورغم هذا سننشغل بتصنيف الناس بين «شهيد» و«قتيل». ليس هذا عملنا كإعلاميين؛ عملنا أن ننقل الى الناس أقرب صورة لما حدث في الواقع بمنتهى الحياد والموضوعية المتاحين، لا أن ننصب أنفسنا قضاة، ونمنح صكوكاً، فندخل بعضنا الجنة، ونقذف بالآخر إلى النار.

 

كاتب مصري

back to top