تفكيك المستوطنات

نشر في 30-04-2008
آخر تحديث 30-04-2008 | 00:00
 د. مأمون فندي لا حل لما يجري في مصر سوى تفكيك المستوطنات. المستوطنات ليست في إسرائيل وحدها، نحن لدينا مستوطناتنا أيضا. انطباعي كلما زرت مصر، هو أن المجتمع المصري مجتمع مستوطنات بامتياز، وربما ينطبق هذا على بلدان عربية كثيرة. صحافة مصر المسموعة والمرئية هي مجموعة مستوطنات مغلقة، لا يدخلها إلا مَن تنطبق عليهم شروط المستوطنة، سلوكاً وعقيدة وحتى ملبساً. الإخوان المسلمون مستوطنة، رغم أنهم جماعة تحاول البحث عن قبول شعبي فإنها لا تقبل أعضاءً جدداً إلا إذا كانوا من أبناء الإخوان وأقاربهم. حزب التجمع مستوطنة لعائلة أو اثنتين. أما الحزب الوطني فهو أم المستوطنات وبداخله عشرات المستوطنات الصغيرة، كالدمية الروسية الشهيرة. أصبحت المستوطنات المغلقة كالأندية الراقية تحتاج إلى واسطة لدخولها... هناك الكثير من المستوطنات الأخرى في مصر، مثل جمعيات العمل المدني التي لا تتعاطى إلا بالدولار، والنقابات المهنية والحرفية وغيرها التي تسيطر عليها جماعات بعينها معظمها مربوطة بعلاقات الدم والمصاهرة.

فإذا كانت المستوطنات الأهلية والمهنية مسدودة ومغلقة بإحكام، فكيف نطالب النظام السياسي بأن يكون منفتحا على الجميع؟ كي يجري الدم في عروق مصر، صحافة وأحزاباً ونقابات ومنظمات أهلية، لابد من تفكيك هذه المستوطنات بدءاً من أصغر قطعة في الدمية الروسية إلى أكبرها.

حكى لي صديق أنه كان يكتب في واحدة من الصحف المصرية. ولأن ما كان يكتبه لم يلق هوى في نفوس بعض أصحاب المستوطنات الصحافية، فقد ذهبت عصابة ممن يسيطرون على مستوطنة داخل الصحيفة الكبيرة التي تشبه مصر، وتشبه من «الشبه» لا من «الشبهة»، ذهبت العصابة إلى رئيس تحرير هذه الصحيفة آنذاك، ووقعوا مذكرة احتجاج ضد الكاتب، بل اشترطوا على رئيس التحرير «إن كتب عندنا هذا الشخص، فلن نكتب نحن»!

ولما كان رئيس التحرير من «اللي كاشفين اللعبة»، قال لهم «خلاص متكتبوش، عندي ألف واحد يسد الفراغ». ولما كان (الأشاوس) يخافون على مواقعهم الاستيطانية التي حصلوا عليها بحكم تقادم الزمن لا بحكم الإبداع، تراجعوا. الدرس المستفاد هنا هو أن المستوطنات «تهوش»، لكنها تتراجع إذا ما واجهت إرادة صادقة في تفكيكها.

أعرف أن تفكيك المستوطنات ليس بالأمر السهل. المستوطنات سمة من سمات المجتمع المصري ومن الصعب تغييرها لأسباب عدة؛ أولها، أن الشخصية المصرية هي شخصية توافقية، شخصية «تمسك العصاية من النص»، فإذا ما أراد مصلح في موقع القرار أن يغير حاصرته مدرسة «سيب الناس تاكل عيش». أما ثانيها، فهو أن المستوطنات في مصر ترسخت حتى غدت أسلوب حياة.

اليوم في مصر، نقابة الصحافيين، وعصابة السينما، وشلة الأدب أو قلة الأدب، والأحزاب السياسية، الخوف من المجهول هو العامل الجامع لها. أذكر أنني كلما حدثت مصرياً عن تنقلي بين الجامعات والمعاهد في الغرب، أجده يسألني ولماذا لا تبقى في جامعتك وتؤمن مستقبلك؟ دائما يكون ردي هو أنني أشعر بالأمان في الحياة، وأنا أضجر من البقاء في مكان واحد لأكثر من أربعة أو خمسة أعوام. ولدي خبراتي التي لن أقول إن الجامعات (تتكالب) عليها، كما يقول كل من حصل على دكتوراه من جامعة (غلبانة) في الغرب ثم عاد إلى أرض الوطن، ولكن على الأقل يمكنني الادعاء بأن ما لدي من علم، مطلوب في كثير من الجامعات. ليست تلك هي الفكرة، ولكن أن يتصور الإنسان أنه رهينة لمكان واحد، وجامعة واحدة، وفكر واحد لا يتطور، فهذا نتاج طبيعي لثقافة الخوف وعدم الوضوح.

هذا الخوف هو الذي يولد حالة (البهلوانية) التي نراها في المجتمع المصري اليوم. الخوف من الغد هو الذي يدفع المصريين إلى القفز على أكثر من حبل... توليفة غريبة، تشبه حالة مذيع تحسبه شيخ طريقة وهو يحدث الدعاة الجدد في برنامجه، وتظنه بعد دقائق «حسين فهمي» عندما يداعب السيدات المتصلات بالبرنامج.

إن أولى خطوات الإصلاح، أن ترسل الدولة إلى المجتمع رسالة واضحة أساسها أن المعيار الوحيد للنجاح هو القدرات وليس الشلة أو العصابة أو النقابة. القانون هو الفيصل. عندما يسود القانون، ويسود مناخ الحرية، يمكن تفكيك المستوطنات. وكما قال طه حسين في كتابه مستقبل الثقافة في مصر «لا يستقيم للعقل أن ننشد الحرية ونسير سير العبيد»!

* رئيس برنامج الشرق الأوسط بالمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية- IISS

back to top