هل يتمدد الجامع في الشارع أم العكس؟ 1-3

نشر في 13-02-2008
آخر تحديث 13-02-2008 | 00:00
 د. مأمون فندي

لفتت نظري في السنوات الأخيرة ظاهرتان في مصر، في ما يخص علاقة الشارع‏ «‏المكان الدنيوي العام‏»‏ بالجامع أو المسجد ‏»‏المكان الديني المقدس‏» والمنزل‏ «المكاني الخاص‏».‏ الظاهرة الأولى التي استوقفتني هي ظاهرة الصلاة خارج المسجد التي نراها في المحافظات وفي العاصمة، خصوصا في صلاة الجمعة‏،‏ حيث يكون المسجد مكتظاً على آخره، حتى نرى من يفترشون السجاد خارج المسجد لأداء الصلاة‏، وراودتني مجموعة تفسيرات ظاهرية لهذا الأمر‏،‏ الأول تفسير عمراني بحت‏،‏ بدا فيه المسجد وكأنه يتمدد إلى الشارع أو أن المسجد يسحّ خارجه‏، ‏مثل كوب من الماء امتلأ عن آخره ونضح الماء المتزايد خارجه، أي أن المكان المقدس يتمدد في الشارع الدنيوي،‏ بما يوحي بزيادة الإيمان بين العوام‏.‏

وقد يصل الناشطون الإسلاميون هنا إلى استنتاج مفاده أن ظاهرة التدين في اتساع وأن المسجد آخذ في احتواء الشارع والسيطرة عليه‏،‏ وهذا استنتاج مقبول إلى حد ما‏،‏ فلم يتمدد الديني إلى الدنيوي فيزيائيا في ظاهرة الصلاة خارج المسجد فحسب، ولكنه أيضا تمدد بشكل رمزي‏، أي أن المسجد لا يسح في الشارع فقط‏ ولكنه يتمدد في الصحيفة والتلفزيون والراديو أيضا بنفس القدر.‏..‏ تمدداً يفرح به الإسلاميون‏‏ وينتقده العلمانيون،‏ مع أن كليهما يحكم على الظاهر فقط‏،‏ وكليهما على خطأ في استنتاجيهما‏.‏

إذ يرى بعض العلمانيين أن مساحة التدين في الصحيفة والتلفزيون والشارع هي نتيجة طبيعية لحالة تمدد الديني في الدنيوي الذي بدأ في السبعينيات مع تزايد نشاط الجماعات الإسلامية والثورة الإيرانية وما شابه ذلك من أحداث يشير إليها البعض على أنها علامات فارقة في تلك الحقبة‏.‏ ولكن ماذا لو قلبنا الأمر ونظرنا إليه بشكل أكثر واقعية مستندين في ذلك إلى منطق الفيزياء؟‏!‏

بنظرة بسيطة يدرك المرء أن مساحة المسجد‏ «‏المقدس‏»‏ أقل بكثير من مساحة الشوارع‏ («الدنيوية‏»، وأن عدد الناس في الشوارع والبيوت أكبر من عددهم في المساجد‏، وهذا يعني‏‏ لو نظرنا إلى الأمر في إطار نظرية انتقال الماء من المليء إلى الفارغ أو الأقل امتلاء في نظرية الأواني المستطرقة المعروفة، لاتضح لنا أن الحركة هي ليست تمدد المقدس في الدنيوي وزحف المسجد على الشارع‏،‏ لكن الحقيقة هي زحف الشارع على المسجد وليس العكس‏...‏ وكذلك ليس زحف المسجد على الصحيفة والتلفزيون‏،‏ ولكن زحف التلفزيون والصحيفة على المسجد‏! يمكنني هنا أن أقول إن المقدس لا يتمدد لينقي الشارع من دنيويته‏، ولكن الشارع بدأ في التمدد «فشورع» المسجد‏ لغة وسلوكاً.‏

أي أنه إذا قارن أحدنا خطب الجمعة في الثلاثينيات مثلاً أو في القرن السابق‏،‏ بخطب الجمعة في الثلاثين عاماً الأخيرة، لرأى بشكل لا يدع مجالاً للشك أن الدعوة القادمة من المسجد في السابق كانت دعوة روحية لها حرمتها وقدسيتها وكذلك وقعها على العامة والشارع‏، أما الآن فنجد أن خطبة الجمعة تلونت بلغة السياسة ولغة التلفزيون‏‏ ولغة الصحيفة‏... وأعتقد أن كثيرين منا استمعوا إلى خطب المرحوم الشيخ عبد الحميد كشك‏،‏ وما فيها من أمثلة لغزو لغة الشارع للغة المسجد،‏ ويحضرني هنا نقده للسيدة أم كلثوم عندما كان يقول إنها امرأة في آخر العمر وتقول خدني بحنانك خدني،‏ أو عندما قال: نحمد الله أن لدينا رجلا يتنفس تحت الماء، في إشارة إلى عبدالحليم حافظ عندما غنى قصيدة نزار قباني الشهيرة «رسالة من تحت الماء»... وآلاف الأمثلة الأخرى التي يمكن أن نسمعها في وعظ هذه الأيام القادم من المسجد والتلفزيون والصحيفة‏.

* مدير برنامج الشرق الأوسط في المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية-IISS

back to top