عودة إلى حدود النمو من جديد

نشر في 01-11-2007
آخر تحديث 01-11-2007 | 00:00
نستطيع أن نستخلص من المناقشات الغريبة الدائرة بشأن تغير المناخ أن العالم يحتاج الآن إلى تغيير مزاجه السياسي والسيكولوجي، وليس إلى إحداث تحولات اجتماعية واقتصادية عميقة. فعلى الرغم من الخطب البلاغية الرنانة، فإن الأفعال الحقيقية محصورة في نطاق ضيق جداً. فالدول الناشئة مازالت تتبنى نمط النمو نفسه. والولايات المتحدة تراجعت تماماً عن جهود الكفاح العالمي ضد التلوث، وباتت تؤكد موقفها باعتبارها المصدر الأضخم للتلوث على مستوى العالم، ويسود النمط ذاته في أوروبا واليابان.
 بروجيكت سنديكيت منذ نهاية الحرب الباردة انهارت أنواع الحواجز كافة، وتغير اقتصاد العالم على نحو جذري. فحتى عام 1989 كان السوق العالمي يضم ما بين 800 مليون إلى مليار من سكان العالم، أما اليوم فقد تضاعف هذا الرقم إلى ثلاثة أمثاله، وما زال في ازدياد. الحقيقة أننا نشهد واحدة من أعظم الثورات إثارة في التاريخ الحديث، والعجيب أن هذه الثورة تكاد تكون غير ملحوظة. فبعد أن كان نموذج «المجتمع الاستهلاكي الغربي» ينطبق على أقلية من سكان العالم، تحول إلى النموذج الاقتصادي المهيمن في العالم، بل لقد تحول إلى نموذج لا بديل عنه على نحو متزايد. وبحلول منتصف هذا القرن قد تصبح حياة سبعة مليارات إنسان محكومة بقوانين هذا النموذج.

لقد أسس الغرب هذا النموذج الاقتصادي الذي ساد في القرن الحادي والعشرين، بكل ما صاحبه حتى الآن من ارتفاع غير مسبوق في مستويات المعيشة. وتسعى بلدان العالم كافة تقريباً إلى مضاهاة هذا النموذج بأي ثمن.

حين أصدر «نادي روما» في سبعينيات القرن العشرين تقريره الشهير عن «حدود النمو»، كانت ردود الأفعال مثيرة للقلق. ولكن على مر الأعوام، ومع استمرار الاقتصاد العالمي في النمو من دون مقاطعة ومن دون حدود كما يبدو في ظل عصر العولمة الحالي أصبحت تكهنات «نادي روما» الكئيبة مثاراً للسخرية على نحو متزايد. إلا أن الرؤية الأساسية التي استند إليها في تقريره وهي أننا نعيش ونعمل في إطار بيئة عالمية محدودة، وموارد وطاقات مستنفدة عادت لتتحدانا الآن من جديد.

إن العالم ليس مشغولاً اليوم بمسألة «حدود النمو»، بل بأهمية إدراك العواقب المترتبة على النمو التي لابد أن يتأثر بها مناخ الأرض ونظامها البيئي. فالصين على سبيل المثال تحتاج إلى معدل نمو سنوي %10 حتى تتمكن من إبقاء المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والبيئية الضخمة التي تواجهها تحت السيطرة. وما كان لهذه القضية أن تشكل أهمية كبرى لو كانت الصين بلداً بحجم لوكسمبورغ أو سنغافورة. إلا أن تعداد سكان الصين تجاوز اليوم 1.3 مليار نسمة. وهذا يعني أن العواقب المترتبة على نموها الاقتصادي باتت بالغة الخطورة.

إن الطلب العالمي على الطاقة، والمواد الخام، والأغذية يتأثر على نحو متزايد بارتفاع الطلب في الصين والهند، اللتين بلغ مجموع تعداد سكانهما 2.5 مليار نسمة. وهناك العديد من الدول الناشئة الضخمة والمكتظة بالسكان، في آسيا وجنوب أميركا، التي بدأت تخطو خطى هذين العملاقين. ولقد بدأ الارتفاع الثابت في أسعار المواد الخام، والمنتجات الزراعية، والطاقة يعكس المخاوف بشأن العجز في المستقبل.

إن هذه العواقب غير المرغوبة الناجمة عن توسع أسواق العالم على هذا النحو تعكس أيضاً احتمالات مفترضة مزعجة، ومن المرجح أن تتحقق خلال فترة وجيزة نسبياً من الزمن. فمن المنتظر في غضون هذا العام أو العام المقبل أن تحتل الصين المرتبة التي تحتلها الولايات المتحدة الآن باعتبارها أضخم مصدر على وجه الكرة الأرضية لانبعاث غاز ثاني أكسيد الكربون، على الرغم من أن نصيب الفرد في الصين في الغازات المنبعثة لا يتجاوز خُمس نصيب نظيره في الولايات المتحدة. تُـرى كيف قد يبدو العالم حين تقلل الصين هذا الفارق إلى النصف؟ والهند أيضاً تأتي في مرتبة قريبة من الصين في ما يتصل بمستويات انبعاث الغازات الكربونية.

تُـرى هل يتمكن النظام البيئي العالمي من استيعاب مصادر التلوث الجديدة هذه من دون حدوث تغيرات ضخمة في جو الكرة الأرضية؟ كلا بكل تأكيد، كما تحذر الأغلبية العظمى من علماء المناخ الآن. لقد ظلت هذه المعلومات الأساسية متاحة منذ مدة طويلة، ولا ينكر التغير المناخي المتزايد السرعة نتيجة لأنشطة يقوم بها البشر سوى قِلة قليلة من العلماء. إلا أننا نستطيع أن نستخلص من المناقشات الغريبة الدائرة بشأن تغير المناخ أن العالم يحتاج الآن إلى تغيير مزاجه السياسي والسيكولوجي، وليس إلى إحداث تحولات اجتماعية واقتصادية عميقة. فعلى الرغم من الخطب البلاغية الرنانة، فإن الأفعال الحقيقية محصورة في نطاق ضيق جداً. فالدول الناشئة مازالت تتبنى نمط النمو نفسه. والولايات المتحدة تراجعت تماماً عن جهود الكفاح العالمي ضد التلوث، وباتت تؤكد موقفها باعتبارها المصدر الأضخم للتلوث على مستوى العالم. ويسود النمط ذاته في أوروبا واليابان، ولو بمستويات أقل قليلاً. وعلى ضوء هذا التحدي العالمي، اتخذت دول مجموعة الثماني قراراً «بطولياً»: فقد وعدت الدول الصناعية الأكثر ثراءً التي تشكل أيضاً أضخم مصادر التلوث على مستوى العالم بـ «التفكير جدياً» في تخفيض معدلات الانبعاث الناتجة عنها إلى النصف بحلول عام 2050. الحقيقة أن هذه البطولة البلاغية كافية لتلجيم أفواه العالم. ولكن علينا أن ننتظر لنرى ما إذا كان الاتحاد الأوروبي سوف يتمكن حتى من تنفيذ وعده بتخفيض معدلات انبعاث غاز ثاني أكسيد الكربون بنسبة -20 %30 بحلول عام 2020. ولكن حتى الآن لم يحدثنا الاتحاد الأوروبي عن السبل العملية التي يعتزم بها تحقيق هذه الغاية.

الحقيقة، ان حل هذا التحدي المتمثل في تغير مناخ العالم واضح وضوح النهار. فالأمل الوحيد في إحراز أي تحسن يتلخص في فصل النمو الاقتصادي عن استهلاك الطاقة ومعدلات انبعاث الغازات الضارة. ولابد أن يحدث هذا في الدول الناشئة، بل حتى على نحو أكثر إلحاحاً في الدول الصناعية القديمة.

ولن يتسنى لهذا الفصل أن يكون حقيقة واقعة إلا بالتخلص من وهم ضخم مفاده أن التلوث لا يكلفنا شيئاً. فلم يعد بوسعنا أن نستمر في دعم النمو الاقتصادي وتعزيز مستويات المعيشة على حساب البيئة العالمية. فلقد أصبح تعداد سكان العالم أضخم من أن يسمح لنا بالاستمرار في هذه المهزلة.

إن التخلص من هذا الوهم يتطلب إنشاء سوق عالمي للانبعاثات الغازية وهو الهدف الذي ما زال بعيد المنال. كما يتطلب الأمر المزيد من الكفاءة في استخدام الطاقة، وهو ما يعني تقليص الفاقد من الطاقة في كل من مرحلتي الإنتاج والاستهلاك. والحقيقة ان ارتفاع أسعار الطاقة يدفعنا في هذا الاتجاه رغماً عنا، إلا أن الأمر يتطلب المزيد من التنظيم. وأخيراً، يتطلب الأمر التوصل إلى ابتكارات تكنولوجية، وسياسية، واقتصادية جديدة في مجال استغلال الطاقة المتجددة، بدلاً من العودة إلى الطاقة النووية أو الفحم. نحن إذاً نواجه تحدياً ينقسم إلى ثلاث شعب حين نتحدث عن ثورة صناعية جديدة «خضراء». والتكيف مع هذا التحدي العالمي يمنحنا أيضاً فرصة هائلة لتحقيق الرخاء العالمي والعدالة الاجتماعية في المستقبل، ويتعين علينا ألا نتوانى في انتهاز هذه الفرصة.

مما لا شك فيه أن هذه التغييرات سوف تسفر عن عدد كبير من الخاسرين. ولن يتقبل هؤلاء الخاسرون «تجريدهم من قواهم» من دون مقاومة. ويبدو أن زمام الأمر ما زال بيدهم حتى وقتنا هذا، ولا أدل على ذلك من كثرة الكلام وانعدام الفعل. وهذا هو بالتحديد ما يتعين علينا أن نغيره الآن.

* يوشكا فيشر وزير خارجية ألمانيا ونائب سابق لمستشارها في الفترة من عام 1998 إلى عام 2005 وتولى زعامة حزب الـخُـضر في ألمانيا مدة تقرب من العشرين عاماً.

«بروجيكت سنديكيت/معهد العلوم الإنسانية» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top