أصدر طبعة جديدة لآثار رامبو الشعرية كاظم جهاد: ترجمتي لرامبو هي الوحيدة الكاملة في العالم العربي

نشر في 23-01-2008 | 00:00
آخر تحديث 23-01-2008 | 00:00

أصدر الشاعر والأكاديمي العراقي كاظم جهاد الطبعة الثانية المنقّحة لآثار رامبو الشعريّة (منشورات دار الجمَل). في كلّ ترجمة له نلحظ انّ الكتب بالنسبة إليه أشبه بالعمارات. فهو ترجم ألف ومئة صفحة لدانتي مع مقدمة أشبه بكتاب، وترجم رامبو مع هوامش ومقدمة. وبدت الترجمة اشبه بـ «مكتبة في كتاب». هنا حوار معه عن رامبو.

بعيداً عن مقولة فالتر بنيامين «الترجمة شكل» وعن مقولة «الترجمة خيانة»، هل حاولت أنت شخصياً إضفاء روحيتك على نصوص رامبو كما يفعل كثير من الشعراء أم كنت وفياً للنص الأصليّ؟

العلاقة بالنصّ الأصليّ أثناء الترجمة مسألة غاية في التعقيد. مهتدياً بتفكير نقديّ حول الترجمة يمرّ بهايدغر وبنيامين ودريدا وبيرمان، وبممارسة للترجمة الإبداعيّة تشمل كلوسوفسكي مترجِماً للإنياذة وجاكوتيه مترجماً للشعراء الألمان وبيرمان مترجماً للأدب الألمانيّ والرواية الأميركيّة الجنوبيّة وآخرين، عملتُ أنا على «الاحتجاب» وراء النصّ الأصليّ، ولكنّ مفردة «الاحتجاب» هذه ينبغي فهمها في مرماها الصحيح. فهي ليست من نوع التراجع السلبيّ كما في حالة الترجمة الحرفيّة، هذا التراجع الذي يقدّم لك النصّ كما يأتي في «نحو» لغته الأصليّة، بلا تدخّل ولا احترام لطبيعة اللّغة المستقبِلة. بل هو «احتجاب» فعّال يُلزم المترجم لا فحسبُ بأن يفهم النصّ المترجَم في دقائق... معناه ولطائف دلالاته وما يتيحه من إمكانات تأويليّة، بل كذلك بأن يستوعب إمكانات لغته. هو في أن تهب النصّ فرص انعقاده بمقتضى شحنته الدلاليّة وأوالياته الإيقاعيّة وما ينطوي عليه من تعقيد أو غموض مشعّ أو اقتضاب أساسيّ. «يحتجب» المترجم هنا تاركاً لقوّتين، قوّة النصّ الأصليّ وقوّة اللغة المستقبِلة، أن «تتصارعا» في أسلوب الترجمة وتتلاقيا. على هذا النحو نخرج من الرؤية القديمة التي تطالب بأن يكون النصّ المترجَم قابلاً للقراءة كما لو كان مكتوباً بالعربيّة أصلاً إلى رؤية تسمح لنصّ الترجمة بأن يحمل بعض سمات النصّ الأصليّ وطاقته التفجيريّة التي يساعد احترامها في تفجير إمكانات تعبيرٍ وصياغة جديدة للخطاب الشعريّ أو الأدبيّ العربيّ نفسه.

بعيدا عن آراء النقاد والكتابات الصحفية، في رأيك ما الذي يميّز «رامبو كاظم جهاد» عن رامبو الآخرين في العالم العربي؟

أوّل ما يمكن قوله هو أنّ ترجمتي هي الوحيدة الكاملة. رمسيس يونان ومحسن بن حميدة لم يترجما سوى «فصل في الجحيم». وخليل الخوري لم يترجم سوى أقلّ من نصف أشعار رامبو، فلقد عتّم على أشعاره السياسيّة والإيروسيّة (ما كانت العرب تدعوه شعر الحبّ المكشوف أو الإباحيّ) وأشعاره المناوئة للجهاز الكهنوتيّ. فما الذي بقي من رامبو؟ إلى هذا، هناك في اعتقادي فوارق أسلوبيّة وإيقاعيّة وعمل إضافيّ على الاقتراب من لغة رامبو المعروفة بطبيعتها الاقتضابيّة والتلميحيّة، هذا وسواه من سمات أترك تقديرها للقرّاء والنقّاد.

لعلّك من أكثر المنقّبين في آثار رامبو الشعرية والباحث في أحوال حياته وصمته ورحلاته ولغته. والسؤال هنا هل يستحقّ شعر رامبو كل هذا الاهتمام في العالم أم أن أسطورته ورمزيته هما الأساس في كل شيء؟

الأساطير لا تولد من عدم. وليس بالأمر السّهل أن يرقى شخص، في عمله الإبداعيّ أو في سيرته إلى مصاف الرّموز. يستحقّ رامبو القراءات النقديّة والترجمات التي تلقّاها وسيتلقّاها عمله لأسباب عديدة. فأوّلاً هو صانع لغات شعريّة وأشكال. البيت الحرّ في صيغته الحديثة يدين له بولادته، وقصيدة النثر التي كانت تشكّل لدى بودلير وآخرين وعداً أو إمكاناً، منحها هو صيغةً ناجزة وفرضها على اللّغة وعلى تاريخ الأدب. وهذا كلّه قام به بعدما أوصل القصيدة العروضيّة الكلاسيكيّة، في فترة بالغة الوجازة وبتسارع عجيب، أقول أوصلها إلى ذرى تعبيريّة وموسيقيّة وبنائيّة لم تعرفها قبله، لا لدى فيكتور هوغو ولا لدى الرعيل الثاني من الرومنطيقيّين الفرنسيّين. يُضاف إلى هذا كلّه توسيعه حدود اللّغة الشعريّة بحيث تستقبل إلى جانب الغناء كلاًّ من السّرد والخطاب بدرجات تكافلٍ وكثافة ما فتئت تعوّل عليها الكتابة الشعريّة الحديثة وتنهل منها. تعدّد الأصوات داخل القصيدة والانتهاء من «الأنا» الموحَّدة المزعومة التماسك والوضوح، هما أيضاً من إضافات رامبو للفعل الشعريّ وللّغة الأدبيّة عموماً. يتحقّق المرء من أهميّة رامبو عندما يضعه في السياق الشامل لتطوّر الأدب (وليس الشعر وحده) وعندما يلقي على عمله نظرة تاريخيّة وآفاقيّة. هنا تتدخّل أيضاً سيرة رامبو. سيرة بالغة التعقيد وحافلة بالتحوّلات وحبلى بالأسئلة، ولقد قُرئتْ هي نفسها كنصّ طويل ملغز ومحيِّر.

عرفَ رامبو وصَوَّر في شعره الطفولة الشقيّة ومأساة انفصال الأبوين والعيش في كنف أمّ دائمة الكآبة ومحدوديّة المجتمع الريفيّ وظلام خرافاته وتطيّراته. وعرفَ وصوّرَ المراهقة المتمرّدة وسلوك المشّاء الكبير. كما عاصر هزيمة نابليون الثالث أمام البروسيّين الألمان، ورأى بلاده مجتاحة من قوّات أجنبيّة وحكومة بلاده وهي تسحق انتفاضة المعدمين والعمّال أثناء «كومونة» باريس، وافتتن بهذه الانتفاضة وكتب عنها وعن الهزيمة قصائد لا تُنسى. وارتاد أخيراً المشهد الثقافيّ الباريسيّ، وأحاط بما فيه من نفاجة ومحبّة ظهور وكسل ذهنيّ وإبداعيّ وأدانه وسخرَ منه. وعاش تجربة المنفى «الإراديّ» (وما من نفي إراديّ) في بلجيكا ولندن وألمانيا وانتهى إلى التيقّن من أنّه لا خلاص للكائن القلِق، أي المتسائل، في أيّ مكان. هجرانه للشعر ومغامرته الإفريقيّة (اليمن والحبشة)، هما تعبير عن اندفاعه في التيه النهائيّ، ومهما كان في صمته من خسارة للشعر والأدب فهو جاء ليفجّر السؤال الكبير عمّا ينبغي أن نختار: الحياة نفسها مفهومةً كمشروع خلاّق أم تكريس النفس للفعل الفنيّ باعتباره تنازلاً عن الحياة؟

بعد إصدارك الطبعة الثانية، هل تفكر في إضافة حواشٍ جديدة للكتاب، وما رأيك بكتاب «رامبو بالأحمر» (عن دار الفارابي) للراحل عصام محفوظ الذي بالغ في انتماء رامبو الى الثورة، واعتبر الكتاب الأوّل من نوعه في العالم العربيّ عن هذا الموضوع؟

في هذه الطبعة الثانية، المنقّحة اعتقد أنني قدّمتُ للقارئ العربيّ أهمّ ما يحتاجه لقراءة رامبو. ولا أعتقد أنني سأضيف حواشي جديدة إلاّ في حالة صدور قراءة مختلفة لرامبو تكون مقنعة وتضع تحت طائلة السؤال معرفتنا الحاليّة لكتابته. أمّا كتاب الفقيد عصام محفوظ فلم أطّلع عليه للأسف. ولكنّ بُعد الثورة والتمرّد في تجربة رامبو حاضر في طبعتي الثانية هذه كما في الطبعة الأولى الصّادرة في 1996، وذلك سواء في المقّدمات أو في الحواشي. في مقدّمة الشاعر الفرنسيّ ألان جوفروا فقرات عديدة عن الانهمام السياسيّ والاجتماعيّ لرامبو، كما أنّ الشاعر اللبنانيّ عبّاس بيضون، في مقدّمته المضافة إلى الطبعة الثانية، عاب على النظرة السائدة في العربيّة لرامبو، إغفالها جانب التغيير والتمرّد عنده وتحويله إلى راءٍ بالمعنى النبوئيّ للعبارة وإلى عرّاف أو ساحر أو مشعوذ. والحال انّ رامبو كان منخرطاً في كومونة باريس، إن لم يكن بجسده (الشهادات على ذلك متضاربة) فعبر رسائله وأشعاره. كان يطالب بتغيير الحياة، ولكنّ تغيير الحياة، الذي يشكّل مطلباً أوسع من هذا الذي تنطوي عليه مطالبة ماركس بـ«تغيير العالَم»، لا يشكّل شعاراً ميتافيزيقياً أو خطابياً بل ينطلق من إعادة قراءة لمكانة الإنسان في التاريخ ولكامل ارتباطاتنا العاطفية والسياسية وتواصلاتنا الحسيّة واللغويّة. بهذا المعنى يمكن اعتبار عمل رامبو كلّه معالجة موسَّعة وجذريّة لهذا المطلب- الشعار.

في مديح الحواشي

لا تحتاج ترجمة كاظم جهاد الرزينة لآثار رامبو الشعرية ثناءً من احد، فهي تفرض نفسها، وهو لا يترجم شعر رامبو فحسب، بل يترجم حياته ومكنوناته وهواجسه وهذياناته ومواقفه وسياساته، وعلى هذا تبدو هوامش كاظم جهاد اكثر من متن في الكتاب، وهي وان سميت هوامش تحفز المرء الى القراءة لاستنباط مراحل ثقافية مهمة في فرنسا واوروبا والعالم العربي على حد سواء، وتساهم اسهاماً جذرياً في تسليط الضوء على عبارات صاحب «الاشراقات» الذي لا يفهمه بعض الجيل الجديد او يعتبره صعباً. وليست مقدمة كاظم جهاد للترجمة اقل شأنا من هوامشه ومن ترجمته، فيحسب المرء من خلالها انه امام «مكتبة في كتاب» كما يقول عباس بيضون، والمكتبة هذه لا تقوم على الاسترسال والاستلشاء بل على غزارة المعلومات والمعاني في الكلام القليل، فنقرأ عن «صمت» الذي ما زال يشغل الباحثين والشعراء، ايضاً نقرأ عن الترجمات العربية للشاعر الفرنسي، واكثر من ذلك يقدم جهاد نصوصا مجهولة للشاعر الفرنسي.

ثمة اكثر من رامبو في العالم العربي، فهناك رامبو لفئة من الاميين الذين لا يحفظون الا اسم الشاعر وصيته، الى جانب رامبو الرائيين ورامبو السرياليين... ويبدو كاظم جهاد الاكثر رامبوية بين الجميع على الاقل لانه الاكثر معرفة بالشاعر الفرنسي وجوهر شعره، يقول عباس بيضون» ليس مهما الكلام عن المكتبة الرامبوية الضئيلة ولا عن الترجمات الناقصة والضعيفة. المهم أن اسماً تألق وساد بالرغم من ذلك ومن دون الحاجة اليه غالباً. ساد اسم رامبو من دون النص الرمبوي أو بتشويش ضخم عنه. توقف البحث عند هذه النقطة ولم يكف الاسم مع ذلك عن التوهج ولا قلّ عدد الراجعين اليه»، يضيف : «كان مثيرا أن يتواتر الكلام عن رامبو والعودة الى رامبو مع شبه غياب لشعره عن القصيدة الحديثة.... ان اثر شعره ضامر في قصائد في هذا وذاك، المسألة ليست مسألة اسماء. فنحن نفتقد الأثر الرامبوي في شعر السياب وعبد الصبور والملائكة وحاوي فحسب بل ونفتقده ايضا في شعر ادونيس وانسي الحاج أيضا.

back to top