الصليبية... أحداث موت معلن! سكانها يطلبون حق تقرير المصير... أو شهادة وفاة؟
«أحداث موت معلن»... عنوان رواية للكاتب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز، ربما تختلف رواية «الصليبية» كمنطقة عن تفاصيل شخوص القصة الأصلية، لكن النهايتين تكادان تتشابهان، فالجميع كان يعرف أن شخصاً يوشك أن يُقتل، لكن أحداً لم يتحرك لنجدته، وما يحدث في الصليبية، يبدو مماثلاً، لأننا نرى ما يحدث لهذه المنطقة البائسة وسكانها، لكن أحداً لم يتحرك لنجدتها، وهي تموت رويداً رويداً... هل أنتم مستعدون لمواجهة النهاية واحتمالها؟
العيش في بيت من طابقين بمكيّف، وسيارة صالحة للاستخدام، مع مدارس مجهزة بشكل جيد، ومستوصف معد لاستقبال الحالات الطارئة، مع قليل من الوجود الأمني، وشوارع نظيفة، هي حلم طفل في الصليبية، أي حياة عادية جدا، وطبيعية لأي شخص من سكان المناطق الداخلية التي لا تعرف ما هي معاناة البدون المقيمين في الصليبية. إذا قمت برحلة بين ضواحي منطقة الصليبية، فستظن للوهلة الأولى أنك في منطقة خارج الحدود الكويتية، لأن أغلبنا يرتاد المجمعات الفسيحة والمباني النظيفة والمنازل التي تعد في أحسن حالاتها، اذا ما قورنت بالمنازل هناك، افخم منزل لا تتعدى مساحته 200 متر، مشيد من مواد رخيصة ومضاف اليه غرف من الصفيح بحوائط مهترئة ومتهالكة تفتقر إلى الخدمات الصحية، وتغرق في مجار ٍوقُمامة مهملة منذ أسابيع.مناظر تثير التساؤل مرة أخرى: هل نحن في الكويت؟ ومن سكان منطقة الصليبية؟ وكيف يعيشون؟ وأين تكمن معاناتهم الحقيقية؟تبحث في هذه المنطقة عن منظر وحيد يسر العين فلا تجد، تتجول في مركزها التجاري ومطاعمها لتصطدم بمدى تواضع الخدمات بجميع فروعها، تبحث في عيون الاطفال عن فرحة موءودة، وهم يعيشون في منطقة بائسة، يكفي أن هناك بعض الأحياء أمسى التجول فيه خطيرا على الصغار والكبار، لانتشار الجرائم والسرقات.لغة المطرالطفل حسين مبارك يبلغ من العمر عشر سنوات، قال إن وسائل الترفيه محدودة جدا، عدا ساحة حولها ورفاقه الى ملعب لكرة القدم متواضع جدا، علما أن اللهو محظور في بعض القطع لخطورة سكانها، وأكثر ما يزعج حسين وزملاءه هو «التقحيص» بالسيارات... الذي بات سمة لشباب الصليبية، حتى أصبحت المنطقة ساحة للشباب المُستهتر القادمين من مناطق أخرى، ليستعرضوا بسياراتهم ويشكلوا خطرا على المارة ويزعجوا السكان.جنسيات الاطفال مختلفة في هذه المنطقة المتواضعة، بين «البدون» أو «المقيمين بصورة غير قانونية»، كما تطلق عليهم الحكومة، ولدى سؤال مجموعة من الأطفال عن جنسياتهم اجابوا بخجل وانكسار بأنهم «بدون»، مع أن أمهات معظمهم كويتيات الجنسية، لكنهم يُعاملون كغرباء في وطن أمهاتهم، ومن بين السكان كويتيون وسعوديون، يقطنون في منازل متواضعة، على أمل أن يحصلوا على منزل من طابقين «لا تنطفئ فيه الكهرباء حين تمطر»، كما يحصل لهم في كل مرة يهطل فيها المطر.حتى أن شخصا قال متهكما بأسى «يكفى أن اسمها الصليبية، هذا كفيل بأن يوضح مدى رداءتها»... وهو يشير الى مدارسها التي تفتقر لكل سبل الراحة، وحوائط بعض المدارس التي طالها استهتار شبابها برسومات سيئة وكتابات متواضعة لذكريات بعض الفتية.مدارس بلا مياهويقول مواطن سعودي من سكان المنطقة «الخدمات الصحية تكاد تكون معدومة، ونضطر إلى الذهاب إلى مستشفى الصباح في الحالات الطارئة»، ويضيف بامتعاض «ذات يوم احتجت إلى الذهاب الى مستشفى الرازي، لكنني واجهت مشكلة وجوب وجود تحويل من المستوصف، ما عرض ابنتي للألم لمدة أطول»، وزاد «المدارس بجميع مراحلها قديمة ومتهالكة، وقبل فترة انقطعت المياة في إحدى المدارس، فظل الاطفال لعدة ايام بلا مياه للشرب أو الغسيل».وأكد أن «الامن ليس مستتبّا، نعاني كثيرا من الشباب المستهتر ليل نهار، الذين يتسكعون من دون مراعاة لغيرهم، ويشكلون إزعاجا كبيرا لأهالي المنطقة، خاصة في شهر رمضان، حيث جعلوا من أحد الشوارع ساحة استعراض لسياراتهم، لولا تدخل الأمن بعد فترة، لكن الظاهرة لم تنته مع كل أسف». وذكر أن السرقات تحدث بشكل صارخ في وضح النهار، وتستطيع أن ترى الشبان وهم يسرقون مرافق المدرسة وأنت ذاهب لتحضر ابنك، من دون خجل أو خوف، ما يحتم وجود دوريات الشرطة لإرساء قواعد الأمن الأساسيه على الاقل».ويقول محمد خالد وهو من سكان المنطقة «تحدث الكثير من السرقات، وقد اختفى عدد غير قليل من السيارات، حيث تستخدم «للتقحيص»، ثم الذهاب بها الى أحياء معروفة في المنطقة، ليتم حرق السيارة بكل بساطة ومن دون أدنى خوف». معازل الصفيحالناشط في حقوق الانسان ناصر البرغش قال لـ «الجريدة»، إن «معاناة البدون تبدأ منذ ولادتهم، فلا تُصرف لهم شهادة ميلاد ولا حتى شهادة وفاة... ويعانون من عدم التوثيق حتى في أمور الزواج، ويضطرون إلى السفر الى المملكة العربية السعودية من أجل التوثيق».وأوضح أن البدون «يتكدسون في مناطق تُسمى السكن الشعبي في الصليبية والجهراء، ويعيشون في بيوت تؤجرها الحكومة للعسكريين أو ابنائهم بأسعار رمزية، ما يسبب هذه المعازل أو مدن الصفيح للبدون وسواهم في هذه المناطق».وأوضح البرغش «صحيح أن التجنيس أمر سيادي للدولة وحق لا يمكن الاعتراض عليه، لكن الكثيرين يغفلون الجانب الانساني للبدون، لاسيما انهم يفتقرون إلى التعليم المناسب، وطرق شغل أوقات الفراغ بنشاط مناسب في مكان ملائم لتفريغ الطاقة السلبية في نشاط ايجابي، ما يساهم في انتشار الجريمة بين الشباب البدون». ووصف منطقة الصليبية بـ «الكارثة»، لانها «تفتقر الى التنظيم، وتنطوي على الكثير من المشاكل والجرائم، والصحف لا تخلو من وجود جريمة او مشكلة في الصليبية بشكل شبه يومي، لان الدولة لم توفر أي وسيلة في المنطقة للتنفيس عن السكان، حتى الساحات الترابية متواضعة والقمامة مهملة والاطفال يتسوّلون، ويهيمون بلا هدف لعدم توافر أي مكان للترفيه والترويح عن النفس».العزلة خارج الزمنويمكن رؤية الإهمال في منطقة الصليبية، فلا مكان للزراعة التجميلة... ولا وجود لسوق مركزي جيد، وتنقصها الساحات العامة والصالات المتعددة الاغراض، وإمكانات الحياة الطبيعية متواضعة جدا، ورب الاسرة يعيش في حال نفسية مزرية، لانه يعلم أن أبناءه سينشأون في ظل بيئة محدودة الامكانات، لا يمكنهم سوى الانعزال في المنزل، ولا يملكون سوى الانترنت أو التلفزيون كوسائل لتمضية الوقت، فيتحولون الى أشخاص انطوائيين يميلون الى العزلة. ويمكن لأي شخص التجول في الصليبية والشعور بمدى تواضع الخدمات، فالمطاعم محدودة، والبقالات تنتشر بشكل غير قانوني بين المنازل كملاحق من الصفيح، والشوارع ضيقة مع كثير من القمامة والمجاري المهملة بلا نظافة او اهتمام.ويعتقد البرغش أن حل المشكلة يتطلب «توفير منازل أكبر لسكان الصليبية، تحتوي أكثر من غرفتين وتُحاط بالحدائق والصالات المتعددة الاغراض، مع وجود أمني أكثر، لأنها تفتقر الى الأمن، وعلى الجهات المسؤولة خلق بيئه صحية لهم، كفتح المدارس ليلا ليمارسوا انشطتهم الرياضية - على سبيل المثال - و إتاحة الفرص لتعليم متقدم في مدارس أفضل من مدارسهم الحالية، ومراكز صحية مكتملة، لاسيما انهم يضطرون بعد اغلاق مركزهم الصحي إلى اللجوء الى مستشفى الجهراء، الذي يعاني من ازدحام مزمن.حزام البؤستتعدد وجهات النظر حول قضية البدون وتتباين، لكن معظمنا يرى الموضوع من زاوية واحدة وحسب، من دون اعتبار لنوعية الحياة التي يعيشها هؤلاء البؤساء، بمنازلهم المتواضعة جدا، وفرص توظيفهم المحدودة وأصابع الاتهام التي تشير إليهم على الدوام، متناسين أن بعضهم ظُلموا، وآخرين ظَلموا أنفسهم عندما انجرفوا وراء تيار الغضب الذي جرهم إلى الجرائم التي يرتكبونها، من سرقه واعتداء واغتصاب.الحديث عن الصليبية، يقود بالضرورة الى «البدون»، لأن هذه المنطقة أقيمت لهم، وأصبحت موسومة بحضورهم، وتسجيلا لواقعة تكاد تتحول الى جريمة بفضل التراخي في مواجهتها، فهل يمكن أن نجد حلا لهذه الفئة التي ظلت تصرخ وتنادي وتطالب بأبسط حقوقها، وهي شهادة ميلاد... وحتى شهادة الوفاة حرموا منها، فأين احترام الآدمية؟ وهل يعقل أن يطلق على الانسان كلمة «بدون» أو غير محدد الجنسية، وهو لقب مؤلم ومؤذ ٍلأي شخص يحمله، وهل نستطيع أن نتفهم معاناتهم، في حين نتمتع نحن بكل حقوقنا، وبسبل الرفاهية التي ننعم بها، وبأبسط الأشياء التي تعد حلما لأطفالهم، وطموحا لشبابهم، وأملا لبناتهم... فهل من مجيب؟الحساسية الصليبيةاشتكى عدد من المواطنين من مصنع الأسمنت المحاذي للمنطقة، وقالوا إن غبار الأسمنت ينتقل الى بيوتهم عند هبوب الرياح، ماسبب أذى بالغا لهم، وراجت بين أطفالهم أمراض الحساسية، وأكد أحد المواطنين إنه اشتكى أكثر من مرة للبلدية والسلطات المختصة بلا طائل.