ابراهيم الغربي ملك الرذيلة في مصر أشهر تاجر رقيق أبيض خلال الاحتلال البريطاني لمصر
الجريمة خلقها البشر. وجدت مذ خلق الله آدم أبو البشر جميعا. هي سلوك عدواني يلحق ضررا بالفرد والمجتمع. لم تنجح أي وسيلة في أي زمان أو مكان لمنع وقوع الجرائم. إنها جزء لايتجزأ من السلوك الإنساني وأحد مكونات الحياة في أي مجتمع، أياً تكن ثقافته أو مستواه الحضاري.
رغم التقدم التقني الذي شهده العالم في مجال اكتشاف الجرائم ومكافحتها فإن المجرمين يقومون في خط مواز بتطوير أساليب جرائمهم في محاولة لتضليل السلطات عن مطاردتهم وإنزال العقاب بهم.بخلاف ما يسمى «المجرم بالصدفة» الذى يرتكب نوعا من الجرائم من دون إعداد أو تخطيط مسبق، ثمة المجرمون العتاة الذين يتميزون بتركيبة إجرامية ذات سمات خاصة وتفشل كل الطرق فى إصلاحهم وتهذيبهم كما تفشل كل أنواع العقاب، مهما بلغت قسوتها، في ردعهم.عالم الجريمة مثير لما ينطوي عليه من رعب وتشويق. وإن كان عالماً صغيراً، إلا أنه يعكس الحياة البشرية بأكملها إذ يمثل حالة الصراع الدائم بين الخير والشر، بين العدل والظلم، بين القوة والضعف، بين الفضيلة والرزيلة.نقدم هذا العالم الغريب في حلقات متتالية، من مصر بلد التاريخ والحضارات المختلفة، بلد الجوامع والكنائس، بلد الهرم والنيل، لكن أيضا بلد «الخط» وريا وسكينة والتوربيني. البغاء أقدم مهنة في التاريخ وأكثرها انتشارا فى العالم. قد لا يخلو بلد من محترفاته وسميت العاملات في هذا النوع من البغاء بأسماء مختلفة على مر العصور. قديما أُطلق عليهن «الخواطي» ومفردها خاطية ثم عرفن بالزواني أو الزانيات، ثم تطور الاسم مع الزمان وتعددت مرادفاته أيضا، فعرفنَ بـ{فتيات الهوى»... لكن هذا المصطلح أصبح شائعاً أكثر في القرنين التاسع عشر والعشرين.ورد البغاء في مصر المحروسة في تاريخ الجبرتي، إذ تحدث المؤرخ الكبير عن منطقة غيط النوبي المجاورة للأزبكية كمكان للبغاء في القاهرة في أواخر القرن الثامن عشر. في عهد الخديوي توفيق، ذكر قانون ضبطيات الأثمان وجود «بعض حريمات» في شوارع المحروسة وشارع كلوت بك وشارع محمد علي وسواها من شوارع القاهرة العمومية، جاعلات لهن دكاكين للإقامة فيها.حدد قانون الضبطية الصادر عام 1880 أماكن ممارسة البغاء في شوارع كلوت بك ومحمد علي والمواردي ومناطق باب الشعرية والأزبكية وبولاق وباب الخرق. وأقرّ تقرير بوليس القاهرة الصادر عام 1926 بأن مناطق البغاء «الرسمية» كانت في منطقة زينهم وباب الشعرية وعماد الدين والألفي بك والتوفيقية وسور الأزبكية. ثم اشتهرت منطقة «عرب المحمدي» بنوع رخيص من الدعارة فكانت أماكنها لا تتجاوز حفرة في الأرض، تغطى بستارة تثبت أطرافها ببعض الأحجار.احتوت منطقة الوسعة ووش البركة في حي كلوت بك في الأزبكية على بيوت حقيرة للدعارة مؤلفة من غرفة واحدة وهي عبارة عن «دكان» ، يصفها شهود عيان بأنها كانت تتميز بستارة تغطي بابها ويكتب على الجانبين السعر المطلوب ويتراوح بين خمسة وخمسة عشر قرشا. كانت هذه الدكاكين أكثر أماكن ممارسة البغاء انتشاراً ونص عليها قانون الضبطية الصادر عام 1880. إلى جانب الدكاكين بيوت من عدة أدوار كانت عبارة عن شقق تتألف من ممر طويل تقع على جانبيه غرف «فتيات الهوى». انتشرت هذه البيوت بدءاً من عشرينات القرن العشرين.الحوض المرصودكانت الدعارة من الأمور المباحة وتخضع لقوانين ولوائح وترعاها الدولة التي كانت تحت الإحتلال الإنكليزي في ذلك الحين، أي أن المحتل الانكليزي ساعد على انتشارها وتقنينها. ارتبطت الدعارة في القاهرة بمستشفى «الحوض المرصود» وهو مكان الكشف على المومسات المصريات. أنشىء عام 1902 وتتوجه إليه «فتيات الهوى» للفحص الطبي .تجارة الرقيق الأبيضخلال الحرب العالمية الثانية، انتشرت دكاكين بيع المثلجات التي تديرها «فتيات الهوى» والقريبة من أماكن وجود المعسكرات البريطانية، خاصةً في مناطق روض الفرج حيث بعض الوحدات البريطانية. كان الجنود الانكليز يترددون على هذه الدكاكين بحجة الشراء إلا أنها كانت تقفل بعد دخول الجنود ويتم اللقاء في داخلها.خلال الحرب العالمية الثانية وصل عدد الجنود الانكليز في مصر إلى نحو 127 ألف جندي. استدعى الأمر إنشاء سبعة مراكز طبية لعلاج الأمراض السارية المنتشرة بين الجنود الانكليز ونشر مندوبون تابعون للخدمات الطبية البريطانية يجلسون أمام الطوابق الأرضية للمواخير في حي كلوت لكن إغراء المومسات الجالسات بمراوحهنّ على مئات من البلكونات الصغيرة المطلّة على ذلك الشارع الضيق الطويل وهنّ ينادين الرجال السائرين، كانت أقوى من تعليمات التحذير البريطانية.حين صدر أمر عسكري عام 1942 أغلقت بمقتضاه منطقة وش البركة، لجأت المومسات إلى ممارسة نشاطاتهن في المقاعد الخلفية لعربات «الحنطور» المنتشرة بكثرة في القاهرة ويتميز بعضها بما تتميز به «الكبائن» المغلقة.انتعشت في تلك الفترة سوق تجارة الرقيق الأبيض واحتلت القاهرة مكانا رفيعا فيه. كثر أيضاً استقدام المومسات الأوروبيات ودخل القوادون اليهود والأجانب اللعبة وبدأت البواخر تنقل المئات من المومسات الأوروبيات إلى ميناء الاسكندرية وميناء بورسعيد. وجدت هذه التجارة سوقاً رائجة في مصر الرازحة تحت الاحتلال الأجنبي وفيها ما يسمى بالامتيازات الخاصة الأجنبية ومنها عدم خضوع الأجانب للقوانين المصرية. بلغ عدد المومسات الأوروبيات المسجلات لدى الداخلية 2124 مومساً عام 1940 وهو ضعف المومسات المصريات المسجلات، فأصبح البلد مرتعا لكل الرذائل من دعارة ومخدرات، ثم صالات رقص وغناء وملاهٍ وحانات، ثم صالات سينما ومسارح وملاهٍ لا حصر لها. انتشرت الخلاعة وكثرت عصابات الرقيق الأبيض وشلل البلطجية والفتّوات...مجتمع الدعارة باتت تتداول بين حارات المجتمع المصري وأزقته النداءات والكلمات البذيئة وتدور يوميّاً المعارك بالسكاكين والسواطير والبلط ومياه النار أيضا وتكثر عمليّات النشل والسرقة، إضافة إلى الفتوات والبلطجية ورجال الشرطة المرتشين والغلمان والشاذين، ألخ.ظهرت وسط هذا الجو الموبوء ظواهر إجرامية، أخطرها «البلطجة». كانت المومسات يخضعن لمطالبهم خوفاً من تعرضهنّ لأذاهم المتمثل في تشويه وجوههن بماء النار أو بالسكاكين والأمواس. نشطت أيضاً ظاهرة القوادة وظواهر أخرى قبيحة في القاهرة خلال فترة الاحتلال الانكليزي.الغــربي ملك الرذيلةكان ابراهيم الغربي أشهر قوّاد وأشهر تاجر رقيق أبيض وأشهر مدير لشبكات الدعارة في مصر كلها في بداية القرن العشرين. ينتمي إلى اسرة صعيدية من إحدى قرى أسوان. كان والده يمتهن تجارة الرقيق (العبيد) منذ 1870.قدم الغربي إلى القاهرة عام 1890 وبدأ حياته الفاسدة بافتتاح بيت للبغاء العلني في شارع وابور المياه في بولاق. لم يمض عام حتى كان امتلك البيت وأضحى من أصحاب الثروات الكبيرة، ثم افتتح عام 1896 منزلاً كبيراً في منطقة الوسعة لتشغيل المومسات وألحق به مقهى بلديّاً للرقص. لم يكن أول مقهى في تاريخ مصر تقدم فيه رقصات فحسب، بل قدمت فيه أول رقصة خليعة عرفت لاحقاً برقصة البطن الفاسدة.عام 1912 أصبح الغربي يمتلك 15 منزلا للبغاء في حي الأزبكية وتعمل لديه 150 «فتاة الهوى»ً يمارس عليهن كل الصلاحيات. مع حلول عام 1916 أصبح الغربي «ملك الوسعة» وامتد سلطانه في عالم الدعارة إلى خارج القاهرة فكانت تجارة «فتيات الهوى» في مصر كلها تخضع له، يضع السعر وكلمته لا تناقش وبات من أصحاب النفوذ في عالم السياسة والمجتمع الراقي وسلطته مذهلة في مصر كلها.اعتقال الغربيعام 1916 قرر هارفي باشا حكمدار شرطة القاهرة (الانكليزي) اتخاذ اجراءات لتطهير المدينة من «فتيات الهوى»غير المرخصات والغلمان الذين خرجوا خارج أحياء البغاء المرخصة. كان أول قرار له في ظل إعلان الأحكام العرفية نهاية عام 1914 إقامة معتقل في الحلمية لإيداع هؤلاء الفاسدين فيه. خلال يومين اعتقلت مائة من «فتيات الهوى» غير المرخصات ومجموعة من القوادين لم يكن الغربي بينهم. دخل نائبه توماس راسل باشا سائلاً عن عدم اعتقال الغربي فأصدر قراراً فورياً باعتقاله. اقتيد الغربي بالأغلال لابساً كعادته الملابس النسائية. آنذاك قرر هارفي باشا على الفور تجريده من الملابس النسائية والزج به في معتقل الحلمية مع أمثاله من المخنثين حيث بقي عاما، ثم تقرر إبعاده إلى قريته.نهـــاية الغربيفي أحد أيام عام 1922 عثرت إحدى المومسات في ميدان السيدة زينب على فتاة قاصر، كانت خرجت من منزل أهلها من دون علمهم. أغوتها «فتاة الهوى» بتزويجها بابنها واصطحبتها إلى منزل في منطقة زينهم حيث تم تخديرها واغتصابها ثم سيقت إلى منازل الدعارة في زينهم للعمل كـ «فتاة الهوى». خلال عملها أصيبت الفتاة بأحد الأمراض المعدية فنقلت إلى مستشفى الحوض المرصود، ثم بيعت بمبلغ 17 جنيهاً لامرأة، ثم بيعت لغيرها مرة جديدة.أبلغ مدير المستشفى النيابة العامة بالحالة وتم التحقيق فيها بمعرفة النيابة. خلال التحقيق انفتحت الأبواب على قضايا أخرى إذ اعترفت الفتاة وأرشدت الشرطة إلى الأشخاص الذين تاجروا بها، فاتضح وجود تنظيم يغوي الفتيات القاصرات ويسلبهنَّ، ثم يؤخذن إلى بيوت الدعارة للعمل بالإكراه وهناك يتم تزويجهن لرجال لمدة 24 ساعة ثم يطلقن، ليدخلن بعد ذلك في طابور «فتيات الهوى». كشفت التحقيقات عن تواطؤ بين العصابة والشرطة وعن عمليات بيع القاصرات فتبين أن ثمّة 400 فتاة تم المتاجرة بهنَّ في أسواق الرقيق الأبيض.اتسع نطاق التحقيق لاحقاً، ليشمل 37 رجلا وإمرأة، اعترف أكثرهم بأن التنظيم الكبير الذي يدير هذه العمليات يرأسه ابراهيم الغربي، ويدير عمليات الرقيق الأبيض في مصر من أقصاها إلى أدناها وأن الفتيات اللواتي يقعن في قبضة تنظيمه بعد إغوائهن، كنَّ يُرحّلن ليلاً من بلداتهن في حراسة رجاله ويصلن إلى القاهرة أو الاسكندرية قبل شروق الشمس، خشية أن تقع عليهنَّ العيون وينكشف أمرهنَّ. في عددها الصادر في 23 أكتوبر 1923 نشرت جريدة «الأهرام» تفاصيل هذا الموضوع تحت عنوان : «الرقيق الأبيض... 400 فتاة في أسواق الفجور» .أسفر تفتيش منزل الغربي عن العثور على كميات كبيرة من الذهب وأوراق مالية وكمبيالات كان يقبضها على النساء والفتيات المغرر بهن، وتبين أن الغربي كان يدير 52 بيتا للدعارة (الأهرام في 3/11/1923). بلغ عدد المتهمين في القضية 21 متهما ومتهمة، وجهت إليهم النيابة العامة ثماني تهم مختلفة.أحيل الغربي على المحاكمة وحُكم عليه بالسجن مع الأشغال الشاقة لخمس سنوات، لكنه لم يستطع تحملها فمات في 15 أكتوبر عام 1926 تاركا وراءه 54 بيتا للدعارة في حي باب الشعرية وعشرات الألوف من الجنيهات.كان الغربي يمارس الجريمة المنظمة في البلاد ويضمّ تنظيمه الاجرامي أعضاء، لكل منهم دوره مثل نظام المافيا في أوروبا والولايات المتحدة. كما اتضح أن تنظيم الغربي سيطر على أجهزة الأمن والإدارة في القاهرة وتواطأ الكثيرون معه. بسيطرته على أجهزة الشرطة وجهاز فحص «فتيات الهوى» في الحوض المرصود وبقيادته لهيئة منظمة من مجتمع استطاع أن يخلق الجريمة المنظمة في مصر.عزيزة الملدنـــةبعد موت الغربي كان على «فتيات الهوى» أن يبحثن عن حام جديد لهنَّ، لأن هؤلاء رغم وحشيتهم تكون «فتاة الهوى» من دونهم ضائعة وعرضة للأذى من أشخاص ومن جهات كثيرة. لم يطل الوقت حتى ظهرت عام 1932 عزيزة الملدنة (بكسر الميم وتشديد الدال)، واسمها الحقيقي فاطمة ابراهيم. كانت تمارس النشاط نفسه الذي مارسه الغربي. تحرّض الفتيات القاصرات على الفسق وركّزت منازلها في منطقة زينهم للدعارة واتسع نشاطها إلى مناطق كثيرة في القاهرة، لكنها لم تستمر طويلا، إذ قبض عليها وقُدمت إلى المحاكمة. قضت محكمة جنح السيدة زينب عليها وعلى شركائها بالسجن لمدة 18 شهراً ونشرت «الأهرام» الخبر في عددها الصادر في 24 فبراير 1924.إلغاء البغاءلم يكن البغاء يقع تحت طائلة القانون لعدم وجود نص يجرمه. كان موقف الحكومة من البغاء هو الإباحة فصدرت القوانين واللوائح التي تنظم هذه الأفعال. نصت لائحة تنظيم بيوت «فتيات الهوى» الصادرة عام 1905 على الشروط المطلوب توافرها في بيوت «فتيات الهوى» محدّدة الأماكن المخصّصة لها، كما حددت الشروط المطلوبة للترخيص. إشترطت اللائحة في شأن «فتيات الهوى»، حصول كل مومس على «أورنيك نمرة 11» يصدر عن سلطات البوليس وإخضاعها أسبوعيّاً للكشف الطبي. بقي الوضع على ما كان عليه حتى صدر الأمر العسكري رقم 76 لعام 1949 بإغلاق هذه البيوت الفاسقة في القطر المصري، ونص الأمر على معاقبة كل شخص فتح أو أدار أو ساهم أو عاون في إدارة وتشغيل بيت للدعارة، لكنه لم يتعرض لنشاط الدعارة، أي أنه ألغى البغاء العلني وأبقى على البيوت السرية.