ايديولوجيون أمنيون!

نشر في 30-10-2007
آخر تحديث 30-10-2007 | 00:00
لو استطاع أصحاب الايديولوجيا الأمنية أن يستغنوا عن العالم ويعيشوا بمعزل عنه لفعلوا ذلك من دون تردّد، فهم لا يريدون تدخّل أولئك الفضوليين ونظراتهم الحاسدة الناقدة المتصاعدة في عصر انكشاف العالم، ولو استطاعوا لناموا على «عقارهم» المكتوب –بأهله- لهم، وأحاطوه بأهداب العيون، وانفردوا به إلى أبد الآبدين.
 موفق نيربية تكاد كلمة الايديولوجيا -كاسم أو كصفة ونسبة– تصبح لعنة في اللغة الفكرية السياسية المتداولة، ليس عندنا فحسب، بل في العالم كله. وهذا أمر محزن قليلاً، حين يكون درجةً من ردّ الفعل لا تحكمها الضوابط العلمية بمقدار المزاجية، ومشاعر التوبة أحياناً. فالكلّ ينسون مدلولها الأساسي الذي هو كونها «علماً للأفكار» أو المُثل، أو كونها «مجموعة متناسقة من الأفكار»، ويذهبون إلى حيث هي عنوان على الأفكار التي يقولبها مفكّرون لمصلحة سياسية أو اقتصادية اجتماعية، فيغلب عليها طابع تزييف الوعي والتعصّب العقائدي والابتعاد عن العلم والموضوعية أو عن البراغماتية بشكل من الأشكال.

لكنها بقرة مذبوحة، فلا يضيرها إضافة سكين إلى السكاكين التي تشتغل فيها؟! وهنا نذهب بالأمر إلى نهايته، فندمجها بصفة غريبة، ونلفت النظر إلى وجه من المهزلة التي ما زلنا نعيشها.

للدولة القوية ضرورة قد تسبق أهمية كونها دولة مدنية وحديثة وديموقراطية، وهي الوحيدة المفوّضة بالإكراه والعنف من بين أطراف العقد الاجتماعي، فلها وظيفة أمنية في كل المعايير والنظم، وحين تغلب هذه الصفة على تفاصيل العقد وتتجاهل موجباته من أنظمة وحكم للقانون ينطبق على الجميع بما في ذلك الدولة نفسها، تتغوّل ويتحكّم بها رسن السلطة الباغية، وتصبح دولة أمنية.

الأيديولوجيا الأمنية –الأكثر زيفاً من أي اشتقاق آخر يلحق بالمفهوم- تعمل على تبرير الدولة الأمنية وطغيان سلطاتها، وإخفاء آفاتها، وإثارة الغبار الكثيف والعواصف من حولها حين تتلبّد أجواؤها وتتزعزع.

في زمننا الانتقالي هذا، تتغيّر مواصفات القادة الأمنيين، ويصبحون أكثر قرباً من «الثقافة»، ليس من حيث هي نقد مستمر وتجديد وتغيير، بل من حيث هي تقييد للنقد وتجميل وتثبيت، لكن بأدوات جديدة، قد يكون بعضها حديثاً مثل علوم الحاسوب والاتصالات والإعلان... ومراكز البحث! ويتقدمون إلى أمام في واجهة السلطة والدولة من دون اعتراض أحد، بل بالترحيب أحياناً، بسبب الفعالية والأناقة والمهارات العصرية، على عكس بعض الساسة المحيطين بدائرة السلطة الفعلية أو مركزها المطلق. وصل الأمر إلى تولّي قادة الأجهزة الأمنية مهمات لا يقوم بها عادة إلا الدبلوماسيون الأكثر مهارة وكفاءة، يستعملون في ذلك أيضاً تلك الرهبة الخفية والرعشة الباردة التي يبعثونها في من أمامهم، والفرحة الكبرى بالابتسامة والنكتة حين ظهورها.

وللايديولوجيا الأمنية وجوه أخرى، ليست فرعية بتاتاً، كما يحسب أهل الفكر من دون سياسة، من أهمها إثارة التوتّر السياسي الدائم، وتحويله إلى توتر أمني، أو العكس. وينسجم هذا تماماً مع السلطة السياسية في الدولة الأمنية، ورغبتها الدائمة في إعادة توليد سلطتها و«تدوير» مكوناتها، على لغة جماعة البيئة. في حين قد لا ينسجم بالمقدار نفسه حين تتفاءل تلك السلطة بعصرنة هيمنتها وتحديثها أو تكييفها، أو تميل إلى ذلك بالفعل، لا يستطيع القادة الأمنيون -وحتى رجالهم- إخفاء فرحتهم بأي أسباب أو ذرائع لإثارة التوتّر السياسي الاجتماعي الأمني، ويكادون يحتفلون بذلك بينهم وبين أنفسهم، وحين يأفل نجم أحدهم أو يخشى على دوره ومركزه، يكون شغله الشاغل اصطياد فرص هذا التوتّر وتطويرها.

من الأيديولوجيا الأمنية أخيراً ما يدخل في البحث والإعلام عن طريق كتاب مختصين لا يحتملون مفاهيم الاعتدال والمصالحة والسلام مع الناس وبينهم، أو حتى من قبلهم مباشرة، والتحريض والتخوين والمؤامرة وتزوير التاريخ والوقائع من ضمن الأدوات «المعرفية»، في هذا الميدان.

إضافة إلى التوتّر الداخلي، يهتم أهل الايديولوجيا الأمنية بالتوتّر الداخلي، ويفرحون بالصعوبات بينهم وبين الخارج، أو في الخارج بذاته، وفي الوقت الذي يثورون فيه غضباً واستنفاراً حين يرون أن هنالك عبثاً باستقرارهم الذي ينبغي ألاّ يُمس ويُخدش، يهلّلون لزعزعة الاستقرار حولهم، بل قد يعملون على ذلك، ولو بشكل مداور. عند ذلك يكونون باعة الاستقرار وسادته، وواحته.

من تلك الوجوه أيضاً، وياللغرابة، شدّ الخيوط الخارجية وتعقيدها باتّجاه العزلة، فلو استطاع أصحاب الايديولوجيا الأمنية أن يستغنوا عن العالم ويعيشوا بمعزل عنه لفعلوا ذلك من دون تردّد، فهم لا يريدون تدخّل أولئك الفضوليين ونظراتهم الحاسدة الناقدة المتصاعدة في عصر انكشاف العالم، ولو استطاعوا لناموا على «عقارهم» المكتوب –بأهله- لهم، وأحاطوه بأهداب العيون، وانفردوا به إلى أبد الآبدين. لا يريدون من الدنيا إلا السياحة والرفاهية وما يستوردونه منها فقط. ألم ترَ تظاهرات الاحتجاج الشعبية الغاضبة على حالات الحصار كيف تخفي وراءها احتفالاً مكتوماً من منظّميها الرسميين أحياناً؟!

تستعمل الأيديولوجيا الأمنية أيضاً تلك الوطنية المفرطة والقومية الغالية وحتى الجهاد المقاتل أخيراً، كما استعملت الاشتراكية والثورة وطهرانية اليسار في السابق. وذلك كلّه من طرائفنا التي لم تعد تضحك أحداً.

* كاتب سوري

back to top