رحلة في النغم الإيراني: من باربد إلى شجريان
اكتشف باربد الموسيقي الأشهر في تاريخ إيران المقام الموسيقي وإيقاع «الدستكاه»، أما في عصر الفتح الإسلامي فقد بزغ نجم الموسيقيين الإيرانيين في الحضارة الإسلامية أمثال أبو نصر الفارابي، وابن سينا، وقطب الدين الشيرازي، وعبدالقادر المراغي. وكان الفارابي قد اكتشف، وبعد خمسة قرون من موت باربد، تراثه الموسيقي الكبير.تخاطب السياسة المصالح الضيقة لشريحة أو فئة اجتماعية محددة، وفي أحسن الأحوال المصالح الوطنية لبلد ما، أما الموسيقى فهي تخاطب الوجدان والمشاعر العليا للبشر بغض النظر عن خلفياتهم الاجتماعية وانحيازاتهم الأيديولوجية. وبتطبيق هذه المقولة على الحالة العربية-الإيرانية نجد أن الموسيقى ربطت الحضارتين العربية والفارسية برباط لم تفلح السنون في فصم عراه، فمازالت مقامات «راست» و«نهاوند» و«سيكا» المكونة للتخت العربي شاهدة على عمق علاقات العرب مع إيران تاريخيا وموسيقياً.ترجع معرفة إيران بالموسيقى إلى زمان مملكة عيلام أي قبل أكثر من 3000 سنة، ومن وقتها يعتبر علم الموسيقى أحد فروع علم الرياضيات، ويكتسب بالتالي مكانة مرموقة في المجتمع الإيراني. وكتب المؤرخ الأشهر هيرودوت أن الموسيقى كانت منتشرة في مملكة الإخمينيين، كما تفيد بعض المراجع أن المطربين المتجولين كانوا محبوبين في فترة مملكة البارثيين. أما في عصر الساسانيين فقد بلغت الموسيقى الإيرانية حداً فاصلاً من التطور، حيث إن أسماء أهم موسيقييها مازالت خالدة في وجدان الإيرانيين حتى اليوم مثل: باربد وسركاش ورامتين. اكتشف باربد الموسيقي الأشهر في تاريخ إيران المقام الموسيقي وإيقاع «الدستكاه»، أما في عصر الفتح الإسلامي فقد بزغ نجم الموسيقيين الإيرانيين في الحضارة الإسلامية أمثال أبو نصر الفارابي، وابن سينا، وقطب الدين الشيرازي، وعبدالقادر المراغي. وكان الفارابي قد اكتشف، وبعد خمسة قرون من موت باربد، تراثه الموسيقي الكبير المكون من 2000 نغمة ولحن مازالت تعيش في الموسيقى الإيرانية. وبعد تحول دولة الخلافة الإسلامية من دمشق عاصمة الأمويين إلى بغداد عاصمة العباسيين برع الموسيقيون الإيرانيون وزاد تأثيرهم في موسيقى المنطقة. وفي عصر الصفويين برع كل من: أحمد قزويني، ومظفر قمي، ومحمد مؤمن وهاشم قزويني في النغم والطرب، ومازالت أعمالهم حاضرة أيضاً في الموسيقى الإيرانية التقليدية. وتعتبر مدينة أصفهان -عاصمة الصفويين- المقر الروحي لوجدان الموسيقى الإيرانية، ففيها حجرة الطرب في قصر «عالي قابو»، وفيها جدارية الموسيقى التي تمثل فرقة موسيقية إيرانية كاملة في قصر «جهل ستون» (الأربعون عموداً). انتهى بي المسير من وسط العاصمة الإيرانية طهران إلى ميدان «بهارستان»، لأتوقف كي أنظر إلى مبنى البرلمان الإيراني القديم ومسجد «سباه سالار» الذي كان مسرحاً للثورة الدستورية في إيران قبل مئة عام. تركت السياسة على يميني، ودلفت من الميدان يساراً لأجد محال بيع الأدوات الموسيقية الإيرانية التقليدية، مررت بجوار ثلاث منها قبل أن أجد محل الأستاد فروغي. ويستعمل الإيرانيون كلمة «أستاد» كدلالة على الموسيقار، وهي في حالتنا هذه تناسب المقام تماماً وتنطبق على الأستاد فروغي أقدم صانعي الآلات الموسيقية في إيران. دخلت إلى المحل برفقة صديقي الصحافي الإيراني مختار برتو، حابساً أنفاسي وعازماً على شراء آلة السنتور، وهي آلة موسيقية وترية تشبه آلة القانون العربية، ولكنها تختلف عنه في طريقة العزف. وإذ يعزف على القانون عبر تثبيت ريشتين في سبابة كلتا اليدين للنقر بهما على الأوتار، فإن السنتور يتطلب العزف عليه النقر على الأوتار بمضرابين صغيرين من الخشب باستعمال السبابة والإبهام. ولكل منهما موقعه في الموسيقى فالأول هو سلطان الطرب العربي، والثاني هو سلطان النغم الإيراني. تصطف الآلات الموسيقية بالمحل في نظام دقيق، إلى اليسار آلات العزف الوترية مثل البربط والستار والتار والدوتار والطنبور، وإلى اليمين آلات العزف مثل الكمانجة والغيجك ومعها آلات النفخ الإيرانية مثل: سورناي، الناي، البالابان، الدونالي، دوساله. تلحظ أيضاً آلات الضرب مثل الدف، التمباك، وأخيراً وفي الوسط تجد السنتور محتلاً مكانه البهي في محل الاستاد فروغي وفي الموسيقى الإيرانية. تطور شكل آلة السنتور بمرور الأزمان، فقد نشأت على شكل علبة مستطيلة ذات أوتار معدنية، حتى وصلت إلى شكلها الحالي أي صندوق غير متساوي الأضلاع مصنوع من خشب الجوز وأوتاره من البرونز، وهي متساوية في السمك وعددها اثنان وسبعون وتراً (مع أن كلمة السنتور تعني مئة وتر باللغة الفارسية). داعبت يدا الصانع مضرابي السنتور ليجربه لي قبل البيع، فهبطت وصعدت بخفة على أوتاره متنقلة برشاقة بين أوتاره لتطلق أروع وأعمق النغمات، في تلاحق وإحكام وانتقال من طبقة إلى أخرى ومن نغمة إلى غيرها، حتى يخيل إليك وكأن أشهر العازفين الإيرانيين صاروا يحيونك بطريقتهم المفضلة. هنا تلحظ أسلوب فرامرز بايور وبرويز مشكاتيان، وفي هذه القطعة يخيل إليك وكأن مجيد كياني وحسين مالك قد قاما من رقادهما الأبدي لتحيتك، وفي هذه الجملة المليئة بالعواطف تشعر وكأن كاظم داوديان ومنوجهر صادقي قد ألفاها لأجلك أنت. يختتم الصانع جملته الموسيقية الطويلة على طريقة الأستاذ ميرزا علي أكبر شاهي: بقوة ورقة في آنٍ معاً. خرجت من محل الأستاد فروغي بأحسن مما دخلته حاملاً معي آلة سنتور من صنع يديه، ممنياً النفس بتعلم العزف على السنتور على خلفية أغاني الموسيقار الإيراني محمد رضا شجريان، والمطرب المعروف شهرام ناظري وعاشق السنتور المغني جمشيد عندليبي. أكتب إليكم الآن من القاهرة ومازالت هذه النغمات ترن في رأسي، كأنها حلم سرمدي عابر للمكان منتقل بين طهران والقاهرة ومخترق للزمان بين باربد وشجريان. * كاتب وباحث مصري