الأبنودي يتذكّر ويروي حكايات البدايات 10: سألت أبي: هل كان الملك فاسداً؟ فقال: لا شأن لك بالصالح والفاسد!

نشر في 24-09-2007 | 00:00
آخر تحديث 24-09-2007 | 00:00

هذه الحلقات ليست ثمرة حوار ممتد عبر عدة جلسات مع صديقي الشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودي، بل ثمرة حوارات طويلة، معظمها عفوي، كان خلالها «يبوح» وكنت «أحفظ». حوارات عفوية تطرق فيها إلى تفاصيل كثيرة ورسم معظم الملامح الأساسية في لوحة حياته فلما جاء وقت الحوارات المقصودة لم يكن علينا أن نبدأ البناء من أوله بل أن نستكمل بعض التفاصيل أو نضع لمسة هنا ولمسة هناك. ولا تحسبوها مهمة سهلة، إذ استدعى الأمر جلسات عديدة وساعات طويلة اقتنصتها من جدول الأبنودي المزدحم بين سفر وسفر، من شاطئ الخليج العربي إلى تونس ومن احتفالية فنية في قرطاج إلى مولد «سيدي عبد الرحيم» الشعبي في قنا، حتى أمكن في النهاية أن أجمع هذه الباقة من «حكايات البدايات» الأبنودية.

في البداية لم يبد الأبنودي متحمساً لموضوع الحوارات. قال: لم لا نحدد موضوعا أهم من «البدايات» للحوار حوله؟ قلت: وهل هناك أهم من البدايات؟ إن حياتك عبارة عن سلسلة متواصلة من البدايات، كأنك تولد كل يوم مرة أخرى، أول يوم في الحياة، أول يوم علم، أول يوم عمل، أول حب، أول وظيفة، أول قصيدة، أول أغنية، أول نجاح، أول إخفاق، أول ديوان، أول جائزة، أول سفر، أول لقاء مع عبد الحليم حافظ وغيره من «مجرة» النجوم التي عشت واحدا منها.

وافق الأبنودي على إجراء حوارات «استكمال أجزاء الصورة». وافق ربما لأننا صديقان، وربما من باب أن «الحياة تجارب»، أو لأي سبب آخر. المهم أنه وافق، مع احتفاظه بموقفه غير المتحمس. لكن «الحماسة» لم تتأخر كثيرا فمع أول سؤال وأول إجابة كان يتدفق كالشلال، كالنيل الذي كان يفيض هناك في أبنود قبل أن يكون هناك سد عالٍ. وليس عجيبا أن الأبنودي يذكر أيام الفيضان هذه بكل الود ويضعها في الموضع الذي يليق بها من تاريخ مصر. وفي الوقت نفسه يعتبر السد العالي «مشروعه» الذي يفاخر به فهو القارئ لتاريخ مصر ـ المكتوب وغير المكتوب ـ بعين محبة وقلب رؤوم والقادر على اكتشاف ما كان في كل حقبة من «فضيلة».

مع السؤال الأول والإجابة الأولى كان الأبنودي يتدفق حماسة واكتشف واكتشفت معه كم كانت مبهجة تلك البدايات التي راح يقص حكاياتها.

في كثير من أحاديثه، يتوقف الأبنودي عند ما قاله شاعر «السيرة الهلالية» الشعبي عن واقعة وثوب بطل السيرة «أبو زيد الهلالي» على معلمه شيخ الكُتَّاب وقتله، مؤكدا بشكل خاص على تبرير الهلالي لما فعله بقوله «كيف يكون عالم وكدّاب؟» أي أن الهلالي، الطفل، قتل شيخه لأنه وجده كذاباً. ويعكس الاهتمام بسرد هذه الواقعة والاستشهاد بها في أكثر من موقف تقديس الأبنودي لفضيلة «الصدق» التي يرى أن وجودها يكتسب قيمة مضافة حين تكون منسوبة إلى «عالم» ينقل الناس معرفتهم عنه وينبغي التأكد من أنهم سيحصلون على هذه المعرفة نقية، لم يمزجها كذب ولا خالطها غش. وربما كان الاهتمام بالواقعة يعكس أيضاً شيئاً من تلك الرغبة الدفينة لدى «الطفل» عبد الرحمن الأبنودي في الانتقام من شيخ الكتاب. صحيح أن الأبنودي لم يفعل ما فعله «أبو زيد» وصحيح أن شيخه لم يكن كذابا، لكن قسوة العقاب الرهيب الذي كان ينزله بتلاميذه، حَرِية بأن تكون قد تركت في نفوسهم رغبة في الثأر. هذا العقاب الذي كان طقساً أسبوعياً دامياً في «كُتَّاب الشيخ مبارك»، يستخدم الشيخ فيه مطرقة حقيقية لـ«بطح» تلاميذه، بينما يقوم معاوناه بصب صبغة اليود ووضع القطن على الرؤوس الدامية. لم يتوقف ذلك إلا مرة واحدة في خميس نادر!

يقول الأبنودي: «في ذلك الخميس ذهبنا إلى الكُتَّاب، ونحن نحمل هم «طابور» التسميع ولواحقه، لكننا فوجئنا بأننا لسنا مطالبين بالاصطفاف، وفوجئنا أكثر حين لم يطالبنا الشيخ بدفع «القرش» الذي ندفعه كل يوم خميس أجراً له على تحفيظنا القرآن. المفاجأة الكبرى أننا رأينا «الشيخ مبارك» للمرة الأولى مبتسماً. لاحظ أنه لم يتخلّ عن تجهمه التاريخي فحسب، ولا زايلت وجهه ملامح القسوة، لكنه فوق هذا كان يبتسم، حتى عينه التي لم نكن رأينا سوادها من قبل، إذ لا يظهر منها غير جزء من البياض، فوجئنا بها وقد استقرت واعتدلت، لنرى سوادها مع بياضها كعيون بقية خلق الله. وكان تحولا مرعباً لم يدخل الطمأنينة إلى نفوسنا بل أصابنا بفزع أكبر وتركنا نضرب أخماسا في أسداس ونحاول أن نتوقع ما عساه يحيق بنا من عذابات مبتكرة!»

رجال الملك

يتذكر الأبنودي: «وبينما نحن غارقون في حيرتنا وصمتنا قطع الزمن المتوقف في الكُتَّاب دخول عدد من الرجال بملابس أوروبية راقية جدا. كان الأكثر أناقة ونظافة في المقدمة، يليه آخرون يحملون حقائب جلدية لامعة وحقائب أنيقة في قنا التي لم نكن رأينا فيها حقيبة من قبل! وتقدم أعلاهم مكانة، كما يوحي مظهره، ليقف أمامنا ويقول: نحن هنا في كُتَّاب حي الأشراف باسم الشريف الأعظم الذي ثبت أنه ينتسب إلى آل البيت، مليكنا المعظم، جلالة الملك فاروق الأول ملك مصر والسودان».».

يؤكد الأبنودي: «لم نفهم مما قاله الرجل المهندم شيئا. كانت الكلمات واضحة، لكننا كنا نقف، للمرة الأولى، بهذا القرب أمام حقيقة أن لنا ملكاً ولم نكن نعرف شيئا بالطبع عن أن هذا الملك ذا الأصول التركية أراد أن يلحق نسبه بسلالة آل البيت، وأن هناك من وجد له «تخريجة» لهذا النسب. وفوجئنا بـ«الشيخ مبارك» وهو يصيح بكل ما أوتي من قوة «يعيش مولانا الملك المعظم» وحين وجدنا ساكتين لا نرد عليه - لأننا لا نردد ما يقوله إلا أثناء حفظ القرآن - استرد شيئا من ملامحه التي نعرفها ونظر إلينا وهو يقول «من تحت ضرسه»: «ردوا ورايا يا...» وهتفنا مع شيخنا بحياة مولانا الملك المعظم فاروق الأول ملك مصر والسودان، بينما رهبتنا تزداد وخوفنا ينمو.

وواصل الرجل المهندم حديثه الذي قاطعه الهتاف، شارحا أن الملك فاروق قرر أن يزور مدينتنا قنا بعد ثبوت نسبه الشريف وأنه سيضع حجر الأساس لمسجد يليق بـ«سيدي عبد الرحيم القنائي». وفي هذه المناسبة قرر جلالته أن ينعم على كل منا بمنحة ملكية. وعاود الشيخ مبارك هتافه وعاودنا الترديد وراءه: «يعيش الملك الصالح... حفظ الله أياديه البيضاء». وأشار الرجل المهندم إلى التلميذين الجالسين في المقعد الأمامي أن يتنحيا، لكنهما لم يفهما الإشارة وجمدا في مكانهما فـ«نحاهما» الشيخ كأنه «كنسهما» بظهر يده ليلصقهما بالجدار. على مقعدهما وضع أحد «حملة الحقائب» حقيبته الجلدية الأنيقة وفتحها ليشع منها ضوء أصفر براق، إذ كانت الحقيبة مليئة بقطع نقدية نحاسية جديدة من فئة القرشين. كانت عملة نسميها «الثمن» لها شكل مميز، إذ لم تكن دائرية بل كانت لها أربعة أضلاع. وكانت المرة الأولى التي نرى فيها مثل هذا «الكنز» من العملات اللامعة وأمرنا الشيخ مبارك بأن نفتح أيدينا، فيما راح مرافقو الرجل المهندم يعطون كلاً منا سبع قطع من فئة القرشين، أي 14 قرشا بالتمام والكمال منحة من جلالة الملك المعظم فاروق الأول ملك مصر والسودان. وقبضنا على قروش المنحة غير مصدقين وحين غادر رجال الملك تصورنا أن الشيخ سينقض علينا ليستولي على القطع اللامعة ويطالبنا - فوقها -بقرش الخميس (أجره الأسبوعي)، لكنه لم يفعل. وحين أدركنا أننا أحرار، نفعل ما نريد، وأن بوسعنا الانصراف إذا شئنا، وضعنا قروش المنحة في ذيول جلابيبنا وربطنا عليها هذه الذيول جيدا، ثم أطلقنا سيقاننا للريح كل باتجاه بيته.

موكب الملك

يتابع الأبنودي سرد ذكرياته: «كان علينا، نظير المنحة، أن نقف مع الجموع التي اصطفت لاستقبال الملك. أمرنا الشيخ مبارك بأن نغسل جلابيبنا ففعلنا. وفي صباح اليوم التالي تجمعنا في الكُتَّاب قبل أن نخرج منه في صف وراح يبحث له عن مكان بين صفوف المستقبلين. كان صفنا، بلا شك، الأكثر بؤسا وإثارة للرثاء فتوارينا بملابسنا الرثة في الخلفية، بينما وقف في المقدمة تلاميذ المدارس بالقميص والبنطلون والطربوش.

كانت قنا كلها في استقبال الملك: المأمور والحكمدار والضباط على الخيول، الموظفون والعمال والفلاحون كل بملابسه وفي موقعه. وكنا نقف إلى جوار «قهوة عاشور» قرب مسجد «سيدي عبد الرحيم القنائي» الذي كان صغيرا متواضعا أصفر اللون، قبل أن يضع الملك حجر أساس توسيعه وتتولى ثورة يوليو إتمامها. وتابعنا، من موقعنا، أحاديث الكبار على قهوة عاشور عن الملك ونسبه وزيارته. سمعناهم يذكرون كيف اكتشف بعض علماء الأزهر أن الملك ينتسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأنه من العِرق العربي الذي استقر في تركيا ويؤكدون أن جلالته دائم السؤال عن قنا وأحوالها وأنه جاء اليوم ليطمئن بنفسه تلبية لنداء سيدي عبدالرحيم. أحاديث اختلطت فيها الحقائق بالخرافات وتسببت بغضب المعلم صاحب القهوة أكثر من مرة حين كان الكلام يتجاوز حدود المسموح به. كما كانت فرقة «ملجأ الأيتام» الموسيقية تعزف مقطوعاتها. وحين صَفّر القطار الذي كان يستقله الملك آتيا من «الأقصر» راحت الفرقة تعزف بحماسة منقطعة النظير مارشاً مشهوراً من «أوبرا عايدة». ومر وقت طويل بين سماع صفارة القطار ومرور موكب الملك من أمامنا. وعلى عكس الانتظار الطويل الممل جاء مرور الموكب سريعا كأنه البرق وهتفت مع من هتف بحياة «الملك الصالح» لكنني لا أستطيع أن أؤكد إن كنت رأيت الملك أم لا!».

في درج الشيخ الأبنودي

وأسأل الأبنودي عن مصير المنحة الملكية، الأربعة عشر قرشا التي «صرّها» في ذيل جلبابه وعدا بها وصولاً إلى بيته فيقول: «أطلقت أمي فاطمة قنديل زغرودة حين رأت القروش اللامعة وعرفت أنها هبة ملكية. واتساقا مع طبيعتها المرتبطة بالناس ارتباطا عضويا والعارفة بالطقوس وأسرار الأدعية والرقى، استدعت على الفور جارتنا الشابة التي كانت مصابة بالعقم وحين حضرت أمرتها بأن تذهب للاستحمام ثم تعود إليها، ثم طردتني خارج الحجرة لتبقى هي والجارة وقروشي. ومن الخارج تلصصت لأرى أمي وقد فرشت منديلا أبيض نظيفاً وعليه كانت قروشي تلمع، ثم أمرت الجارة الشابة بأن تمر (تخطو) من فوق القروش سبع مرات، فيما راح صوتها يرتفع بالدعاء «يا عاطي يا وهاب.. يا مسبب الأسباب.. من فضلك وفيضك.. إدي جاريتك الغلبانة.. المحتاجة العشمانة.. عيل يملا البيت...إلخ». والعجيب أن هذه الجارة رزقت بعد هذا أبناء، هم الآن رجال كبار!

وحين جاء أبي، الشيخ الأبنودي، وعلم بأمر المنحة الملكية ورأى القروش اللامعة، قرر أن تنتقل قروشي إلى حوزته، خوفا عليها من الضياع إن ظلت معي ومن الإنفاق إن تركها مع أمي. وضع أبي كنزي الأول داخل علبة كروته الخاصة، ثم وضع العلبة داخل درج مكتبه الذي كان يحرر عليه عقود الزواج وإشهارات الطلاق. أخيرا أغلق الشيخ الأبنودي باب غرفته وكانت في أعلاه طاقتان تخلوان من الزجاج، كم تسللنا نحن أبناؤه بفضلهما إلى غرفته، بعد أن أصبحنا ندخن، لنسرق السجائر التي كان يجبر على تلقيها في الأعراس أثناء قيامه بعمله كمأذون شرعي. ولأنه لم يكن مدخنا كان يحتفظ بها فحسب وكنا نسطو عليها.

ولفترة طويلة ظللت أرتقب أن يعيد أبي القروش إليَّ، أو أن يمر على ذكرها، وحين طال تجاهله للأمر قمت بأول جريمة في حياتي داخل نطاق الأسرة!».

ثم كانت نهاية الملك!

وعن رؤيته للملك بعد منحته السامية والمشاركة في موكبه، ثم تلقيه لخبر قيام ثورة 1952 بعد ذلك يقول الأبنودي: «الزيارة والمنحة كانت قبل قيام ثورة يوليو/تموز 1952 بنحو سبع سنوات ظللت طوالها أحتفظ للملك في قلبي بمساحة مضيئة من الحب النقي والإعزاز. جاء إلى بلدنا وزار شيخنا عبد الرحيم القنائي ووسع مسجده ومنحني رجاله سبع قطع نقدية لامعة قيمتها 14 قرشاً».

يضيف: حين قامت الثورة لم أسمع بها. كنت في أبنود أمضي أجازة الصيف. كان عمري 14 سنة وكانت الإجازة الصيفية بدأت والصيف يعني أبنود فأنسى قنا ومدرستها بمجرد أن تلمس قدماي رصيف محطتها، لأعود إلى ممارسات الطفولة الأولى: تسلق النخل والعوم وصيد السمك واللعب في الليالي المقمرة، كما أمارس «التصييف» أيضا ولم يكن «التصييف» بالنسبة إلينا يعني الذهاب إلى الشواطئ وحمامات السباحة -لا سمح الله- لكنه يعني السير خلف الجمال المحملة بالمحاصيل، في طريقها من الحقول والأجران (البيادر) إلى البيوت، لالتقاط ما يتساقط من حمولة الجمال بسبب اهتزازها أثناء سيرها. كنا نجمع الحبوب المختلفة في «قفة» واحدة، ثم نعود إلى بيوتنا لنفرز حصيلتنا ونكون منها مخزوننا الخاص. وفي سوق أبنود المسقوفة رأيت «مجلس قيادة الثورة» للمرة الأولى. كانت صورته معلقة على باب دكان «الحاج خليفة الطواب»، ورحت أقرأ أسماء لا أعرفها مسبوقة بألقاب الصاغ والبكباشي واللواء. وسألت صاحب الدكان عن أصحاب الصورة فأشاح بيده المصابة بالشلل الرعاش قائلاً: «أهو سيب اللي يخبط يخبط!» ولم أفهم من إجابته شيئا، كما لم أجد لدى جدتي «ست أبوها» أي علم بالأمر ولم يكن رفاقي في الحقول أفضل حالا مني».

يواصل الأبنودي ذكرياته: «ظللت على هذه الحال حتى عدت إلى المدرسة في قنا بعد انتهاء الإجازة الصيفية وهناك كان أول درس تلقيناه يتكلم عن سقوط الملك الذي أصبح يوصف بـ«الفاسد» والذي هتفت بحياته أثناء زيارته الميمونة باعتباره الملك «الصالح». وتناول الدرس أيضا «الحركة المباركة لجيش مصر» بقيادة رئيس الجمهورية محمد نجيب الذي تذكرت - حين سمعت اسمه- صورته المعلقة على باب دكان الحاج خليفة الطواب وهو يضع في فمه «البايب» الذي أصبح علامة مميزة له.

كان أستاذ اللغة العربية أحمد عمر شديد السعادة وهو يشرح لنا الدرس، أما أنا فانتابتني الحيرة وشعرت بارتباك كبير، إذ كيف تصبح بلادنا بلا ملك؟ إن الأمر يشبه أن أجد أبنود من دون عمدة!

وفي طريق العودة من المدرسة مررت على بائع الجرائد «عم عوكل» الذي كان يفرش بضاعته فوق سرير من الجريد ورحت أقرأ عناوين الجرائد عن فساد الملك والحاشية، ليتضاعف إحساسي بالصدمة والحيرة والارتباك وتساءلت: إذا كان الملك فاسدا فعلا كما يزعمون فلماذا جاء إلى بلدنا؟ لِمَ زارنا واهتم بتوسيع مسجد «سيدي عبد الرحيم القنائي»؟ لِمَ منحنا تلك الهبة الملكية التي لم نكن نتوقعها ولم نطالبه بها؟

وحين وصلت إلى البيت لم أطق الصبر وسألت أبي: هل صحيح أن الملك كان فاسدا؟

فصدني بعنف قائلاً: «لا صلة لنا بصلاح ولا بفساد، عليك أن تكون مخلصاً للحاكم وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم».

وفي صباح اليوم التالي، سمعت ليلى مراد تغني:

على الإله القوي الاعتماد

بالنظام والعمل والاتحاد

وعرفت أن «النظام والعمل والاتحاد» شعار أطلقه الرئيس محمد نجيب».

قلت للأبنودي: «يعني أن أخبار الثورة لم تصلك إلا بعد أكثر من شهرين على قيامها، حين قامت الثورة في يوليو/تموز ولم تعرف ما جرى إلا بعد دخول المدرسة في أكتوبر/تشرين الأول!».

فقال: «بلى، احتاج الأمر إلى وقت أطول لاستيعاب التفاصيل واستخلاص المعنى واحتاجت معرفة جمال عبد الناصر ودوره إلى وقت أطول». وهي حكاية أخرى من حكايات البدايات، فإلى الحلقة المقبلة.

قلت لنفسي ـ وانا آسف..

ياما لنفسي باقول ـ

هل ينفعوا دول

لنشيد معدول

واضح في العرض

ووافي الطول؟

في هذا الغيط الموبوء بديدان الهم

هل حتفتح من تاني أزهار الدم؟

هل من تاني

حترجع صورة الشعلة للبرواز

والقمصان تتعاص في الجاز

والطرابيش

ح تواجه الجيش

وتعود تتفسر كل الألغاز

في بساطة وإعجاز؟

والا ح تفضل دكاكين الدنيا تسلمنا

من كف لكف

وتعرضنا ف نفس الرف

وترمينا تحت الرجلين

في آخر الصف؟

الأبنودي ـ الجزر والمد ـ الأحزان العادية

* * * * *

رقصة الزار القديمه

الحميمه

العظيمه.. لحد فكرناها ثوره

فرق بين رقصه وثوره!!

لا هي جايه فوق حصان

ولا في لحظة زمان

ح تهب نابته في الغيطان

ولا رقصه

برجل حافيه

ف مهرجان!

دكهه هاديه

تيجي هاديه.. وصوتها دامي

تعزل الكداب..

وتقبض ع الحرامي!

تعرف الناس.. مش كتل

تعرف الناس..

بالوجوه وبالأسامي!

تيجي فاتحه القبر

نادغه الصبر

قابضه الجمر

تنصب محاكم الشعوب في كل قصر

تغير العصر

إلى آخر الصفحات في سِفْر الثورة

الأبنودي ـ الجزر والمد ـ الأحزان العادية

* * * * *

وعمارة «صدقي باشا» ف ضهري!!

فاهمين إيه معنى عمارة «صدقي» ف ضهري؟

معنى إن «عمارة صدقي» ف نفس الميدان

بتطل على النيل الأسيان

وعلى الشاعر

ابن النيل الغلبان

اللى بيحلم يفتح للفجر بيبان

ويقيد للفجر نيران

ويقرا للفجر بيان

و«عمارة صدقي» لسه عظيمة الشان

مازالت تحمل نفس الاسم

ونفس الهيبة

غابت في غبار الثورة يومين.. لكن

رجعت م الغيبه!!

تنظر لي: «يا جربوع السكان

يا ابن الكفر الحافي العريان»

تسخر من كل الصدق ف صدقي

وكل الخيبة!!

الأبنودي ـ الجزر والمد ـ الأحزان العادية

* * * * *

واحس ليا وطن

واحس ليا ناس

وحاجات مالهاش حصر

ساعتها أحس بمصر

مصر اللي شالتني صوت

وسقتني

خلقتني

وادتني اسمي وتوبي وسري وملامحي

وعلى حواف النهر غسلتني

وأنبتني لما ملت ف يوم

مصر الغلابة اللي بتخلق مصر

وإن كان صحيح لعصرنا أصوات

يبقوا الغلابه

همَّ صوت العصر

الأبنودي ـ سوق العصر ـ المشروع والممنوع

back to top