قراءة في فيلم شاهيني شجاع هي فوضى تجتاح وتحتاج إلى ثورة!
تظلم القراءة المتسرعة فيلم «هي فوضى» للمخرج يوسف شاهين. فهو ليس فيلماً عن فساد شرطي صغير (أمين شرطة) فحسب (أداه بحذق وإحساس كبير بالدور خالد صالح)، إنما الفيلم، للإنصاف، هو فيلم عن فساد السلطة والنظام السياسي وتلك الأجهزة التي تقمع المواطنين في مصر اليوم.والحق أن شاهين في فيلمه، الذي شاركه في إخراجه تلميذه خالد يوسف، وفي كتابته السيناريست ناصر عبد الرحمن، طمح إلى أن يقدم بناء فيلمياً متنامياً، ابتداء من رصد وتجسيد واقع الفساد و»الفوضى» والاستبداد وعذابات البشر، كمجتمع وكأفراد، مروراً بصور الغليان والتفاقم والاحتقان، والتي تصل في «النهاية» إلى انفجار شعبي، وانتزاع الحقوق باليد عنوة. إنه قانون الانتفاض والثورة والتغيير، عبر تاريخ البشر.
الفيلم يعبر عن فوضى هدامة عارمة تحتاج إلى ثورة، من أجل التدارك و»عودة الروح» واستعادة الصحة النفسية للمجتمع ومواطنيه، والحق أيضاً أن شاهين يقدم فيلمه» فى لحظة تاريخية يصل فيها العبث والاهتراء بهذا المجتمع إلى مدى يوشك معه أن يكون كل شيء فيه آفلاً آيلاً للسقوط. إنها لحظة عصيبة تمر بها مصر. يختار شاهين أن يتناول، مجتمعه الراهن ويحلّله من خلال حالة معيّنة ونماذج بشرية محددة. فثمة النموذج السلبي الأهم، الشرطي الفاسد «حاتم»، ومن خلفه الضباط الكبار (أحمد فؤاد سليم ـ عمرو عبد الجليل)، وهم الذين يساندونه، ويتسترون على جرائمه مهما كبرت، بما في ذلك اغتصابه لجارته الفتاة «نور» (منة شلبى). بالمقابل، يقدم شاهين أربعة نماذج إيجابية تقاوم كل ذلك العبث والفساد، وهم نور وخطيبها شريف (يوسف الشريف)، وأمها بهية (هالة فاخر)، وأمه ناظرة المدرسة (هالة صدقي)، والتي تهتم دائماً بقضايا الوطن منذ كانت تشارك في مظاهرات الحركة الوطنية والتقدمية في السبعينيات الماضية، تلك التي تعرفت وأحبت خلالها زوجها الراحل والذي أنجبت منه ابنهما الوحيد شريف، والذي يقدمه شاهين في البداية مضطرباً، يخطئ في اختيار شريكة حياته (الممثلة التونسية الموهوبة درة) ابنة طبقة متحكمة بالمجتمع اليوم، فوالدها عضو بلجنة السياسات، وهو اختيار بالتأكيد مقصود من شاهين.لكن الشاب «شريف» لا يلبث أن يرجع عن اختياره الخاطئ ويستفيق من الفوضى التي كادت تهدد حياته، لتتلاقى مشاعره مع حب نور العميق له، والذي كان على علم به، ولم تتردد هي في أن تبوح به لأمها ولأمه، اللتين كانتا تباركان وتدعمان ارتباطهما. أمّا أم نور فهي بهية ـ وما أدراك ما بهية أيضاً في سينما شاهين ـ إنها موجودة منذ بهية (هدى سلطان) في الاختيار وبهية (محسنة توفيق) في «العصفور»، مروراً ببهية (لبلبلة) في «الآخر»، إنها التجسيد لروح الوطن، المرأة البسيطة العامرة بالمشاعر الحضارية والثراء الروحي والمثابرة والكرامة، إنها التجسيد لروح وضمير شعب مصر.أما حاتم فلم يقدمه شاهين كمجرد شرطي فاسد، يظلم ويفرض «الإتاوات»، أو يلقي ظلماً بطلاب الجامعة المتظاهرين وغيرهم في زنزانة سرية بالقسم، إنه كل ذلك وأكثر لكنه أيضاً إنسان عانى كثيراً فى طفولته وصباه في مشهد وحيد جمعه بنور، عبّر فيه عن وحدته القاسية وشقائه البالغ ربما ليستدر عطفها، لكن الفيلم لم يوح بأنه كاذب، بل واصل التأكيد على جانبه الإنساني تارة بحبه وولهه الشديد لنور، إلى حد دخوله شقتها في غيابها لمجرد أن يتلمس ملابسها وسريرها، كما يسرق صورة لها فيكبرها ليراها أمامه طول الوقت، وجهاً وجسداً، بينما هي تصده دوماً بعنف، إذ إن نفسيته السيّئة الفاقدة للضمير لا يمكن أن تتوافق ونفسيتها البريئة، وفطرتها الخيّرة (تجسدها منة شلبى بإحساس جميل) إنهما نقيضان لا يلتقيان، وهو حين يكتشف ذلك يكاد يجن، فيختار أن يلتقيها قسراً، وهكذا نصل إلى موقف سينمائي طويل ينتهي باغتصابها.يؤكد «هي فوضى» بوضوح وشجاعة أن مثل هذا القهر والفساد والفوضى لابد أن يؤدي إلى الانفجار، وهو ما جسدته لقطات خروج أهل الحيّ في النهاية غاضبين، ما يؤكد أن هذه الفوضى ستؤدّي إلى ثورة شعبية.