أحزاب سياسية أم مقار للشيشة؟
التيار الفئوي يعلم أنه يرتكز على مرجعية صغيرة تتشظى بين الحين والآخر لمشاحنات فئوية داخلية بحته، بينما الأحزاب القومية الصغيرة التي حولت مقار الأحزاب إلى دكاكين وأندية، دورها الالتقاء مساء وتدخين الشيشة والحديث عن الأيام الخوالي وشتم الامبريالية والرجعية والخونة.أود في البداية أن أعلن أنني ضد كل أشكال منع وتقييد حرية التعبير الخاضعة للقانون القائم على الشرعية الدستورية في مجتمع انتخابي حر. لأن هذا المطلب قد يتم الاختلاف بشأنه ولكن يحق لي «حق التعبير الشخصي» باعتبار أن الحرية أسمى قيمة إنسانية. فهل فعلا يحق لوزارة الداخلية الأردنية أن تصدر قانوناً جديداً لتكوين الأحزاب، بعد أن كانت الأحزاب ممنوعة من هذا الحق لأكثر من 39 سنة. فماذا كان نص القانون الجديد الخلافي الذي يحمل أوجهاً عدة، والذي أجد نفسي أكثر ميولا إلى تقليص أحزاب ولدت بفعل الظروف ولسهولة تكوينها وتشكلها من مجموعة عائلات وحلقات صغيرة، من السهل أن تمنحك حق تكوين الحزب، فقد كان القانون السابق يجيز لخمسين شخصا تشكيل حزب سياسي بينما القانون الجديد يشترط 500 عضو لتأسيس الحزب. لماذا ضجت الأحزاب البالغ عددها 36 حزبا في بلد كثافته السكانية صغيرة، وحسب الإحصاءات الرسمية يصبح في الأردن 160 ألف شخص لكل حزب سياسي، وبذلك يصبح الأردن أكبر من الهند التي لا يوجد فيها أحزاب من «الخردة» بهذا الحجم! وعندما طلبت أخيرا وزارة الداخلية الأردنية من الأحزاب تعديل وضعها القانوني قامت قيامة الدنيا، فلم يجد أصحاب الذرائع أنفسهم إلا اجترار مفردات حقوق الإنسان وحق التعبير وتقليص سقف الحريات، وكل مفردات التنديد والاستنكار، لشعور أغلبها بأنها لم تستطع جذب عنصر جديد منذ إعلان شرعيتها منذ عام 1992، فأغلبية الأحزاب القائمة على الفئوية والنزعة القومية واليسارية، تدرك أنها تمر في ظروف صعبة، ولكل تيار أسبابه ومكوناته، فالتيار الفئوي يعلم أنه يرتكز على مرجعية صغيرة تتشظى بين الحين والآخر لمشاحنات فئوية داخلية بحته بينما الأحزاب القومية الصغيرة، التي حولت مقار الأحزاب إلى دكاكين وأندية، دورها الالتقاء مساء وتدخين الشيشة والحديث عن الأيام الخوالي وشتم الامبريالية والرجعية والخونة، وتتصور أن دور الحزب ومجموعته هو إصدار البيانات والتوقيع على بيانات أخرى مؤيدة أو مستنكرة حسب الحالات، وتلك الأحزاب أغلبها عاشت على عطاءات الزعيم الراحل صدام حسين،حيث تدفقت دنانير النفط من وراء النهر العربي. ومع الحصار الخانق ورحيل «القائد» أصبحوا يتامى بلا مصدر للتمويل وانفض السُّمّّار من حولهم، فقد صارت موائدهم خاوية، فعلة هذه الأحزاب أنها لم تستطع أن تتمدد ولو بعضو واحد جديد منذ تأسيسها، مما يعني أن الجدب السياسي ينخر جسدها والزمن يتخطاها، ولكن الشيخوخة السياسية والفكرية تأبى الخضوع للواقع والوقائع رافضة التسليم والاستسلام ورفع راية الهزيمة، فقد تعودوا النضال والرفض حتى آخر رمق! ولكنهم أدركوا أخيرا أنهم عجزوا عن تكييف أوضاعهم، فالبحث عن خمسمئة شخص أمر مستحيل. وإذا ما كان قانون الأحزاب الجديد يدعو الأحزاب الصغيرة إلى الاندماج على أسس مشتركة وممكنة، فإن المتصلبين المصابين بالشلل المطلق أغلقوا عليهم الكهف أو أن الكهف أغلق أبوابه عليهم، فصار لا حول لهم ولا قوة، غير أن اليساريين القدماء، وشيوعيي الأردن اكتشفوا وهم يتحاورون فيما بينهم منذ وقت، إذ كانوا فيما بينهم يضعون قَدَماً هنا ويسحبونها هناك، فإنهم بهذا القانون مجبرون على التحرك سريعا بدلا من التلكؤ والجعجعة الفكرية والسياسية والحديث عن الحنين السياسي أو التنظير الفكري الممل، فالحياة السياسية ومتغيراتها تقتضي استيعاب العصر والانطلاق نحو رؤى جديدة لا تلغي الثوابت في الدفاع عن مصالح الشعب، إنما تشخيص تلك المصالح وتشخيص مستويات التطور واتساع القاعدة الشعبية وحراك المجتمع بدلا من الوقوع مرة أخرى في الجمود العقائدي نفسه والأدوات التحليلية نفسها، متناسين أن المنهج لا يوقف التغيير إنما التغيير دائما يغير من أفق المنهج ويستبدل أجزاء في مكوناته التاريخية والفلسفية، وباندماجهم استطاعوا تجميع العدد المطلوب، فكان القانون الجديد بمنزلة قوة الدفع للعجلة المعطلة لدى اليسار المصاب بروماتيزم الشيخوخة الدائمة، حيث لم يستطع منذ الانهيار القدرة على اجتذاب الدماء الجديدة من الجيل الشاب، ومازال يقتات على جيل الأبناء والوسط العائلي كرافد لتوسعة الحزب، المحاصر بتيارات الإسلام السياسي، غير أن ذلك لا ينبغي إيقاف حيوية الحزب في ظروف علنية أكثر تلاؤما مع العصر.لقد كان قانون الأحزاب الجديد هدفا في اتجاهين ولكنه «حق يراد به باطل» إزاء تضخم في الأزمات والزعيق المزعج للاستثمارات والسلطات، ولكن صار للمعارضة التي كيّفت أوضاعها بسرعة حكمة مهمة هي «رُبّ ضارة نافعة». * كاتب بحريني