في العمران والديموقراطية 4

نشر في 28-03-2008
آخر تحديث 28-03-2008 | 00:00
 د. مأمون فندي الأنظمة الثورية في العالم العربي لم تأت أيديولجيتها بمعمار جديد، لذا لم تغير من المعمار «الرجعي» ككتل معمارية قائمة، لكنها فعلت ما هو أخطر، إذ عبثت بذاكرة المدن التي تعتبر في معظمها مدنا قديمة، ربما كان السبب أن أغلب القادة «الثوريين» أتوا من مدن ريفية ولا يعيرون كبير اهتمام لذاكرة مدينة لم يكبروا معها. ففي مدن كدمشق وبغداد، تغير أسماء الشوارع والساحات بل حتى أزقة المدينة القديمة لتسمى بأسماء الشهداء، رغم بناء الضواحي السكنية الجديدة خارج المدينة والتي كان من الممكن أن تحمل هذه الأسماء. في القاهرة، ينقل تمثال رمسيس الثاني من الساحة التي تحمل اسمه والتي عرفها هكذا المصريون لعقود طويلة إلى متحف سيبنى على قده، وكأن مصر بأكملها ليست متحفا كبيرا، ربما نفاجأ ذات يوم بأن وادي الملوك نقل من جنوبه إلى متحف سيعمر له في الشمال!

من المثير للانتباه، أن يبنى في دمشق مثلا مبنى جديد ضخم يستضاف به كبار زوار الدولة، لم يكن موجودا في زمن ملكي، لكنه سمي قصر الشعب، فالمبنى هنا يجمع رمزيا بين مفهومين حاكمين، حكم الفرد وحكم الشعب. وليس بعيدا عن الذاكرة الإنسانية قصر النهاية ذي الصيت المخيف الذي بناه صدام حسين لتعذيب معارضيه السياسيين، والذي أرعب العراقيين لزمن ليس بالهين. لماذا كلما أراد «الثوريون» التأكيد على عظمة معمارهم سموه بالقصور التي يدعون أنهم جاءوا لتقويضها؟

اطلعت على صور معمارية التقطت لمبان حكومية وإدارية في وسط مدينة بغداد، في أواخر عهد صدام حسين، وراعني النموذج (القوسي) الموحد للمباني، لقد ارتأى أصحاب القرار (وقتئذ) أن الأقواس هي العنصر المعماري المميز للهوية القومية العربية، فأصبحت واجهات معظم الأبنية أقواسا تتكرر وتتقارب دونما إيقاع Rhythm جمالي، في الطوابق السفلية والعلوية، تكرار ممل وقبيح لا يجعل للمدينة هوية كما كان يأمل من اقترحوه، بل يصبغها بطابع قسري واحد، نموذج فاضح على معمار الدكتاتورية.

في دمشق، يمكن للزائر العادي غير المتخصص أن يلحظ الفارق الكبير بين مباني فترة الانتداب الفرنسي، ومباني ما يسمى بدمشق الحديثة. رغم أن الفترة الأولى هي فترة الاستعمار والفترة الثانية هي فترة الحرية، إلا أن معمار الانتداب هو معمار أكثر جمالا ورحابة من حيث المقياس والتصميم الداخلي والخارجي. العمران المحلي القديم المتمثل في مدينة دمشق القديمة داخل السور، والتي يرجع مخططها العمراني (رقعة الشطرنج) إلى العهد الروماني، والذي يعتمد على البيوت المؤلفة من دورين فقط، الطابق الأول غالبا يبنى من الحجر ويبنى الطابق العلوي من الطين، وتنفتح النوافذ على (أرض الديار)، وهي الفناء الداخلي الذي تتوسطه في العموم نافورة ماء (البحرة). أزقة دمشق القديمة ضيقة قريبة جدا من المقياس الإنساني من حيث ارتفاع البيوت وعرض الأزقة تتناوب فيها مساحات الظل والضوء، لا نعرف كيف كان من الممكن أن يطور الدمشقيون عمرانهم لأن ما حدث في مرحلة الانتداب الفرنسي يعد انقطاعا كبيرا بين أبناء دمشق وعمارتهم المحلية، فالفرنسيون أتوا بعمرانهم، الدور الطابقية والشوارع العريضة والساحات والمشافي الكبيرة، وعمروا بمواد بناء لم تكن مستخدمة، ماذا لو لم يحدث هذا الانقطاع؟ هل كنا سنجد دمشق حديثة مختلفة؟!

أما المدن الأوروبية فمعمارها مثقل بالتاريخ، المدن لها هويتها العمرانية ما يجعلها راسخة في الذاكرة ويميز واحدتها عن الأخرى، لكنها مدن مكتملة لا تقبل جديدا، تحتفي بتاريخها على الدوام لذا تجد قوانين البلديات فيما يخص ضابطة البناء، صارمة وتسمح بمجال ضيق جدا في التغيير، وأحيانا لا يتسع حتى لتغيير لون خشب النوافذ. من هنا تبدو نيويورك مثلا المفتوحة على كل ما هو جديد في العمران، مقياسا وتصميما ومواد بناء، مدينة العالم الجديد، معمار لا يجر وراءه تاريخا.

ما أحاول إيصاله هنا، سواء في حالة المانيا أو في حالات مصر ودمشق وبغداد، هو علاقة العمران بالتطور السياسي‏،‏ وفي هذه الحالة لا بد من حديث عن المعمار وتخطيط البلدان وعلاقته بالانفتاح الديموقراطي‏،‏ عمران يجعل من القيم والممارسات حقيقة عمرانية وممارسة يومية‏،‏ وليس مجرد حديث نظري لا يمكن تطبيقه‏،‏ فالديموقراطيه تبدأ بعمران البيت‏،‏ بنفس الطريقه التي تتأثر فيها بعمران الأمة‏.‏

* مدير برنامج الشرق الأوسط في المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية (IISS)

back to top