إعلام بلا مؤسسة

نشر في 02-09-2007 | 00:00
آخر تحديث 02-09-2007 | 00:00
 ياسر عبد العزيز

المشكلة الكبرى التي تواجه الممارسة الإعلامية العربية هي غياب المؤسسة، وبروز أشكال أخرى من التنظيم، أو اللاتنظيم، الأمر الذي يحوّل الأداء الإعلامي إلى تصرفات عشوائية لا يحكمها ضابط، مما يفقد الوسائل الإعلامية ثقة جمهورها.

تخيل أن شخصاً ما، معروفاً لديك بأنه حسن الاطلاع، دخل مكتبك فجأة وألقى إليك بخبر خطير:

كارثة طبيعية، أو اشتباك مسلح، أو وفاة مفاجئة لمسؤول رفيع. لقد تركك هذا الشخص وخرج، لم يمنحك الفرصة للسؤال عن التفصيلات، ولم يقف حتى تتثبت منه في شأن صحة الواقعة. أمامك جهاز كمبيوتر، وصلة إلى الإنترنت، وجهاز تلفزيون فيه المحطات الإخبارية جميعها، والخبر الذي أُلقي عليك مهم جداً لك، ورغبتك في التثبت منه ومعرفة التفصيلات كبيرة، والوقت المتاح لك قليل.

ببساطة أنت تريد، في أسرع وقت ممكن، التثبت من الخبر أولاً، ومعرفة أدق التفصيلات وأكثرها استيفاء عما حدث ثانياً، على أن يكون ذلك بأقصى قدر متاح من الصدقية والموضوعية والدقة.

ما المواقع التي ستدخل إليها عبر الإنترنت من صحف ووكالات أنباء، وما المحطات الإخبارية التي ستبحث عنها وأنت تعرف أنها ستقدم لك أوفى رواية عما حدث؟

حدد أسماء خمسة مواقع؟ الأسماء الخمسة هي عناوين المؤسسات الإعلامية التي تحظى بثقتك بالترتيب، والتي تلجأ إليها عادة في أوقات الخطر والغموض أو عند بناء السياسات واتخاذ القرارات.

ليس هذا هو المهم، فأنت، بلا شك، تعرف المؤسسات الإعلامية المحلية أو الإقليمية والعالمية التي تحظى بثقتك، والتي تلجأ إليها عادة بحثاً عن المعلومات الموثوقة. أنت تعرف أيضاً أنك ربما تلجأ إلى وسائل إعلام معينة بأغراض أخرى؛ التسلية، قضاء الوقت، الفضول، العادة، تغذية انحيازات وميول عاطفية ما، وأن مشاهدتك بعض القنوات، وشراءك بعض الصحف والمجلات ليس بالضرورة اعترافاً منك بأهلية هذه الوسائل وقدرتها على كسب ثقة الجمهور وتقديم الحقائق بأكبر قدر ممكن من الحياد والصدق.

المهم فيما حدث هو محاولة الإجابة عن السؤال التالي: كيف استطاعت تلك الوسائل الخمس اكتساب ثقتك وثقة الملايين غيرك؟ لماذا لجأت إلى تلك الوسائل، وبهذا الترتيب، عندما كان الأمر يتعلق بمصلحة مباشرة أكيدة وتحت ضغط الوقت؟

الإجابة ببساطة لأن تلك الوسائل الخمس مؤسسات إعلامية وليست مجرد منشآت أو منظمات أعمال أو هيئات بيروقراطية. وبصيغة أخرى؛ فتلك الوسائل هي الأكثر التزاماً بمعايير المؤسسة الإعلامية بين جميع الوسائل التي تعرفها أنت.

فالمشكلة الكبرى التي تواجه الممارسة الإعلامية العربية هي غياب المؤسسة، وبروز أشكال أخرى من التنظيم، أو اللاتنظيم، الأمر الذي يحوّل الأداء الإعلامي إلى تصرفات عشوائية لا يحكمها ضابط، مما يفقد الوسائل الإعلامية ثقة جمهورها، خصوصاً وقت اشتداد الحاجة إلى المعلومات ذات المصداقية والوضوح والدقة.

معظم وسائل الإعلام في العالم العربي تتخذ أحد ثلاثة أشكال: أولها المنشأة التي تدار باعتبارات المحال التجارية والشركات العائلية الصغيرة، وثانيها منظمة الأعمال ذات القواعد المحاسبية الهادفة إلى تقليل المصروفات وتعظيم الإيرادات بأي وسيلة ممكنة، وثالثها الهيئة البيروقراطية التابعة للحكومة غالباً، والتي تعمل وفق سلم للأقدمية والولاء، ولا تهتم سوى برضا المالك/الممول وتحقيق مصالحه على حساب أي اعتبار أو قيمة.

المؤسسة الإعلامية شيء آخر مختلف غير الأشكال الثلاثة السابقة الذكر؛ فهي تبدأ من رؤية واضحة معلنة؛ تحدد المكانة التي يسعى القائمون على المؤسسة الى احتلالها في المستقبل القريب، ورسالة توضح سبب وجودها، والمهام التي توكلها لنفسها، وتدعو جمهورها إلى محاسبتها في شأن وفائها بها من عدمه.

المؤسسة الإعلامية يجب أن تمتلك خطة استراتيجية واضحة ومعلنة، سواء للعاملين أو للجمهور، وأهدافاً استراتيجية معلنة، تتميز بالطموح والواقعية في آن واحد، وسياسة موارد بشرية تختلف عن تلك المعمول بها في منظمات الأعمال، وتتوافق مع طبيعة العمل الإعلامي كمساحة موزعة بين الفن والإبداع من جهة والاحتراف والمهنية والمعايير المنضبطة من جهة أخرى.

تعمل المؤسسة الإعلامية من خلال أدلة تحريرية ملزمة، تقنن قواعد العمل، وترسي معايير التثبت من صحة الأخبار، وتحدد الخطوات الواجب اتخاذها لضمان الممارسة الصحافية الرشيدة، التي تستوفي معايير الصدق والموضوعية والدقة والحياد والنزاهة والتوازن والإنصاف.

وهي لا تقتصر على ذكر تلك المعايير وتكرارها في أدبياتها، فيما هي بعيدة كل البعد عن التزامها والوفاء بها، ولكنها توضح تلك المعايير وتفصلها، وترسي قواعد تحقيقها، وتقيم وسائل المحاسبة على عدم التزامها، وتنشئ آليات للإثابة على بلوغها.

سؤال أخير: كم مؤسسة إعلامية لدينا في عالمنا العربي؟ وكم مرة لجأنا إلى وسائل إعلام أجنبية لنحصل على معلومات أكثر صدقاً وتوازناً من تلك التي تنشرها وتبثها «منشآتنا» الإعلامية؟

* كاتب مصري

back to top