خواطر أميركية 1-3: الصراعات القادمة في مجلس الأمن
نجح العرب عبر آلية التمثيل الجغرافي في ضمان تمثيل دائم في المجلس، والمثال على ذلك تمثيل العرب الآسيويين فترة زمنية (يمثلهم الآن دولة قطر)، وتمثيل العرب الأفارقة فترة لاحقة (ستمثلهم ليبيا في الفترة المقبلة)، وهو نجاح دبلوماسي كبير يستحق الاحتفاء به، رغم الكثير من الانتقادات المشروعة التي توجه إلى السياسة العربية الرسمية.تدخل قاعة مجلس الأمن في مقر الأمم المتحدة في نيويورك، وترتسم في ذهنك أطياف الأحداث السياسية التي هزت العالم، وقررت مصيره طوال نصف القرن الماضي، هنا مصب عمليات صنع القرار الدولي، وهنا ترمومتر وميزان الثقل الدولي، مع ملاحظة أن عملية التصويت على قرارات مجلس الأمن ليست سوى المرحلة النهائية من عمليات الحراك والتصادم الدولي، أما التعديلات الطفيفة على مشاريع القرارات قبل عرضها للتصويت فلا تعدو أن تكون تغييرات اللحظة الأخيرة التي لا تؤثر كثيراً في مسارها، هنا في هذه القاعة ذات الخمسة عشر مقعداً تتقرر المصائر ويكتب التاريخ، الذي يأخذ شكل الأرقام التي تعودت الأجيال العربية المتعاقبة على حفظها عن ظهر قلب مثل القرار 194 الخاص بعودة اللاجئين الفلسطينيين، أو القرار 242 الخاص بإزالة اثار عدوان يونيو 1967، تدور لغة دبلوماسية رصينة وناعمة على ألسنة المتحدثين، وتعكس نفسها على منطوق القرارات ومشاريعها ويخفي مضمونها تلويحاً بالقوة العسكرية والسياسية والاقتصادية، وبقدر ما تكون اللغة أقرب إلى المزج بين اعتبارات اللياقة الدبلوماسية والتلويح بوسائل القوة، كلما كانت ناجحة وقوية ومفهومة، رافقني خلال جولتي في مقر الأمم المتحدة في نيويورك الدبلوماسي الأممي البارز حازم فهمي، الذي يعمل في سكرتارية الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون للشؤون الاقتصادية، وحازم بك اضافة الى كل ذلك زميل دراسة وصديق تاريخي، ولذلك فقد امتزجت خواطرنا وذكرياتنا الشخصية المشتركة بحاضر وحال الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي، بعد التقاط الصور في قاعة مجلس الأمن تدور في مخيلتك أسئلة ذات طبيعة أخرى، تتجاوز مجرد المقاعد الوثيرة ذات اللون الأزرق المصطفة حول مائدة مستديرة كبيرة، لتصل إلى استشراف مستقبل مجلس الأمن في المرحلة القادمة. ساعتها انتقلنا من قاعة مجلس الأمن وقاعة الجمعية العامة الأكبر حجماً والأكثر فخامة إلى مقصف المبنى لتناول القهوة، وهناك تعرفت إلى عدد من مندوبي الدول العربية في المنظمة الدولية والكثير من الدبلوماسيين العاملين في لجانها المختلفة. جسدت الأمم المتحدة موازين القوى الدولية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وهي المنظمة الدولية التي ورثت «عصبة الأمم» التنظيم الدولي البسيط قبل بدء الحرب، لتحتكر الأمم المتحدة من وقتها وحتى الآن تمثيل الشرعية الدولية، وينبثق مجلس الأمن الدولي عن ميثاق الأمم المتحدة ويتكون من خمسة أعضاء دائمين هم الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية: الولايات المتحدة الأميركية، وروسيا، التي ورثت مقعد الاتحاد السوفييتي السابق، والصين، وفرنسا وإنكلترا، ويملك هؤلاء الأعضاء حق النقض، أي «الفيتو»، لمنع أي قرار من المجلس لا يتم التوافق عليه. أما الأعضاء العشرة الباقون فيتم انتخابهم لفترة مؤقتة على أساس التوزيع الجغرافي لضمان تمثيل القارات المختلفة في مجلس الأمن، ولكن دون أن يمتلكوا حق النقض، ومع ذلك فهناك أهمية كبيرة للأعضاء غير الدائمين، إذ يستلزم أي قرار من مجلس الأمن موافقة تسعة أعضاء على الأقل عليه قبل أن يصبح نافذ المفعول، ولفت انتباهي حقيقة غائبة عن الكثيرين، وهي أن العرب نجحوا عبر آلية التمثيل الجغرافي في ضمان تمثيل دائم في المجلس! والمثال على ذلك تمثيل العرب الآسيويين فترة زمنية (يمثلهم الآن دولة قطر)، وتمثيل العرب الأفارقة فترة لاحقة (ستمثلهم ليبيا في الفترة المقبلة)، وهو نجاح دبلوماسي كبير يستحق الاحتفاء به، رغم الكثير من الانتقادات المشروعة التي توجه الى السياسة العربية الرسمية. تغير العالم وتغيرت توازناته، ولم تعد هيكلية العضوية في مجلس الأمن عاكسة لموازين القوى الدولية سواء لجهة التمثيل الجغرافي أو السياسي، ولا يستطيع أحد الآن إنكار أن الدول المهزومة في الحرب العالمية الثانية، أي اليابان وألمانيا، قد صارت أقطاباً دولية، أقله على الصعيد الاقتصادي، ولم يعد بالإمكان تجاهل أن القارة الافريقية والقارة الأميركية اللاتينية غير ممثلة تمثيلاً دائماً بالمجلس، اضافة الى اختلال التوزيع الجغرافي في المقاعد الدائمة والذي يتجلى في تمثيل الصين فقط للقارة الآسيوية، واحتكار أوروبا لثلاثة مقاعد هي روسيا وفرنسا وإنكلترا من أصل خمسة مقاعد، وتبزغ الهند كدولة صاعدة في السياسة الدولية تملك مزايا عديدة للتأثير على الأمن والسلم الدوليين من دون أن تتمكن من ترجمة هذا الثقل إلى عضوية في مجلس الأمن، كما تظهر دول أخرى كثيرة تطالب بحقها في تمثيل دائم بمجلس الأمن، ولذلك بات الكل مقتنعاً بأن الآليات المؤسسة للأمم المتحدة والتي تعود إلى ستين عاماً مضت، لم تعد عاكسة بدقة للموازين الدولية وللاعتبارات الجغرافية، وبالرغم من هذا الاقتناع يبدو التدافع والتزاحم على العضوية بالمجلس مولداً لصراعات جديدة غير تلك التي اعتاد مجلس الأمن على النظر فيها، فالصراعات الجديدة لن تدور بالوسائل العسكرية لاقتطاع أجزاء من أراضي الدولة الأخرى، ولكن ستكون صراعات باستخدام الوسائل غير العسكرية كلها حصراً؛ ليس لاقتطاع أراض، بل لاحتلال مقعد دائم في المجلس الموسع القادم.سيشتعل الصراع على المقاعد الدائمة في قارات العالم كلها وليس في رقعة جغرافية معينة، كما هي الحال في الصراعات التي دأب المجلس على البت فيها، وسيتسبب ترشيح الدول إلى معارضة ترشيح دول أخرى منافسة لها، ويبلغ هذا التقدير ذروة كفايته التفسيرية عند تصور المعارضة الباكستانية المتوقعة لترشيح الهند، والمعارضة الصينية لترشيح اليابان والمعارضة الأرجنتينية لترشيح البرازيل، والمعارضة الفرنسية والإنجليزية وحتى الإيطالية لترشيح ألمانيا، كما ستظهر المنافسة بين جنوب افريقيا ونيجيريا ومصر للحصول على المقعد الافريقي في المجلس القائم، في ظل رفض جنوب افريقيا لتبادل الدول الثلاث على المقعد، وكل منها تملك أوراقاً ممتازة. نيجيريا هي أكبر دولة افريقية من حيث عدد السكان، وجنوب افريقيا هي أكثرها تقدماً اقتصادياً، ومصر هي أكثرها ترسخاً في بنية المؤسسات الدولية، وستكون ممثلاً متعدد المواهب لافريقيا وللدول العربية وللدول الإسلامية في وقت واحد! يظهر الآن تحالف دولي يتكون من أبرز الدول المرشحة للعضوية اليابان وألمانيا والهند والبرازيل للدفع بقبول عضويتهم، والتي لن تعني امتلاك حق النقض الفيتو مرة واحدة، ولكن مجرد توسيع العضوية هو هدف كبير وخطوة أولى نحو تعديل هياكل الأمم المتحدة لتتناسب مع الحقائق الدولية الجديدة، ويتطلب التعامل مع التحالف الجديد المذكور احتشاد الدول العربية خلف مصر لاحتلال المقعد الافريقي، باعتبار أن هذا الاحتشاد المطلوب لا ينطلق فقط من مبادئ التضامن العربي، ولكن أيضاً من أسس المصالح العربية العليا ومتطلبات الأمن القومي لكل دولة عربية على حدة؛ والتي ستملك وقتها حليفاً دائماً بعضوية دائمة في عالم تحكمه المصالح الدائمة. * كاتب وباحث مصري