مئة عام على ولادته تقي الدين الصلح... الرئيس المثقَّف
يستطيع المرء أن يستنبط من كتاب «تقي الدين الصلح سيرة حياة وكفاح» لعمر زين، سيرة رجل استقلالي، ميثاقي، مثقف، يشبه الخصوصية اللبنانية وتلاوينها وتناقضاتها وتداخلاتها وتعقيداتها، بل وجمعها بين ثنائيات، الجبل والبحر، الداخلية والخارجية، التراث والحداثة، الطربوش والعصرنة.
تقي الدين الصلح الذي وصفه الصحافي جورج نقاش بأنه «كان أول الجديد ولم يكن آخر القديم كما أوحى طربوشه» و«المسلم_ المسيحي» بحسب أمين الريحاني، هو ابن عائلة انتشرت في بلدان عربية كثيرة، بسبب الأراضي التي امتلكتها في غير بلد عربي ونشأ على فكرة مداها من المحيط الى الخليج، بخلاف أبناء بيروت من المنشغلين بالشأن العام ممن لم يغادروا دوائرهم الانتخابية، ويعرف أنهم يقسمون بغربتهم اذا جاوزت أقدامهم حدود هذه الدائرة.من معرفته باليسوعية تلميذاً ومعهد اللاييك أستاذاً ومن قبل تلميذاً، عرف تقي الدين فرنسا الأخرى، فرنسا الإنسان والبعد الحضاري فالأحرار بكل معنى الكلمة من أبنائها ليسوا استعماريين حتى ولا انتدابيين. وقبل الاصطدام بين لبنان والوجود الفرنسي وبعده، ظل تقي الدين صديقاً لفئات منهم يساريين وغير يساريين كمكسيم رودنسون الذي عينه هو استاذاً للفرنسية في مقاصد صيدا، والمستشرق الكوموندان لوسرف الذي ترجم الى الفرنسية بمعونته غزليات رشيد نخلة الشعرية.ثقافةكان تقي الدين الصلح أيام الانتداب من أصلب الاستقلاليين المناهضين لسلطة الانتداب وأعنفهم لكنه، خلافاً لمسلمين كثر معادين للانتداب، حرص على الانفتاح السياسي والفكري والاجتماعي على المسيحيين، وفي هذا المجال نجح في فتح خطوط مع اللبناني الآخر. تميز بأنه كان سبّاقاً في محيطه الى التمسك بالمفهوم المدني للسلطة والمجتمع، سواء في محاضراته كأستاذ أو في مداخلاته كنائب في المجلس النيابي أو في قراراته كمدير للمطبوعات في وثبة الاستقلال أو وزير في ما بعد للداخلية أو رئيس حكومة أو نقيب صحافة أو رئيس حزب أو صاحب أحلام لبني قومه، فشكل في ذلك كله ظاهرة ألبت عليه ساسة كثر و غيرهم. صنف مستبقاً محيطه ليِّناً كأصحاب الأقلام أحياناً ومفرطاً بهيبة الحكم في نظر السلطويين أحياناً أخرى. إلا ان الغالبية من المتقدمين أو التقدميين، رأت فيه ظاهرة نوعية بين أبناء جيله.يقول عمر زين: «رجال السياسة أنواع، ثمة سياسي مبطن برجل قانون، وسياسي مبطن برجل مال، وسياسي مبطن بأديب وهو كان سائداً في فرنسا في الجمهورية الثالثة وينطبق على تقي الدين الصلح الذي كان له قلم الأديب إضافة الى فكر السياسي وقدرات رجل الدولة. ومن هنا طغت السياسة على الأديب حتى كادت تطمس نتاجه». وفي الروايات المتداولة بين الشيوخ المعمرين في مدينة بيروت أن أحد أخوال تقي الدين، عندما جاءه الخبر أن ابن أخته عازم على الدخول في مجال التعليم، اتصل بشقيقته قائلاً لها أن صديقه الداماد أحمد نامي، رئيس الدولة المعروف في زمانه، خابره ناصحاً ألاّ يسمح بأن يصبح ابن شقيقته معلّماً، لأن التعليم لا يليق بأبناء الذوات ولأنه في رأي الداماد يكبّر عقل التلميذ ويصغّر عقل المعلّم. لكن تقي الدين اختار، بعكس المزاج الأرستقراطي السائد في عائلته، التعليم والصحافة مجالاً للعمل الحر طيلة عهد الانتداب وحتى مجيء الاستقلاليين الى السلطة عام 1943، عندها ترك التعليم وتولّى المديرية العامة للمطبوعات كأول منصب رسمي حكومي يتولاه، جاعلاً منه معقلاً للتوجيه الوطني والفكر التحرري المواكب لوثبة الاستقلال.إنعكس هذا المفهوم النهضوي للسياسة عند تقي الدين في تقييمه الإيجابي لكتّاب كبار اختاروا الكتابة باللغة الفرنسية شأن شارل قرم صاحب «الجبل الملهم» وإفلين بسترس وناديا حمادة تويني وتوقف خصوصاً عند نتاج بسترس وتويني، ليكتشف القارئ انحيازه المتنوّر للإبداع النسوي كظاهرة فنية إنسانية من الدرجة الأولى. إنطلق تقي الدين الصلح في السياسة من مقال أدبي، ففي 4 تموز (يوليو) 1934 كتب مقالاً نقدياً في مجلة «المعرض» بعنوان «الجبل الحائر» تناول فيه «الجبل الملهم» الصادر آنذاك بالفرنسية للشاعر شارل قرم. ويعتبر هذا المقال، الجامع بين النقد الأدبي والسياسة، اللبنة الأولى في البناء الفكري الذي قام عليه الميثاق الوطني اللبناني في ما بعد والذي لم يكن من صنع بطلي الاستقلال رياض الصلح وبشارة الخوري بل نتيجة لتطور عمّ البلاد ابتداءً من عام 1930. فحتى هذا العام كان المسيحيون، عموماً والموارنة خصوصاً، مخلصين لفكرة لبنان الكبير وموالين للانتداب الفرنسي، كذلك كان المسلمون رافضين للكيان اللبناني والانتداب الفرنسي، لكن ابتداء من عام 1930 بدأت تظهر بوادر تطور في موقف كل من الفريقين، فارتفعت اصوات مسيحية داعية الى الاتفاق مع المسلمين على قاسم مشترك، في طليعة هؤلاء الشيخ بشارة الخوري والدستوريون ويوسف السودا الذي شكل حركة سياسية أسماها «الميثاق الوطني»، ضمت الوطنيين المسيحيين والمسلمين.ويؤرّخ عمر زين لجذور تقي الدين الصلح فيقول: «كلنا يعرف ما الذي جرى عندما عُيّن تقي الدين مديراً عاماً للمطبوعات في مرحلة كانت فيها القوى الدولية وخصوصاً فرنسا، تخوض معركتها ضد حركة الاستقلال الشعبية. فعرف كيف يجعل من الإعلام الرسمي والخاص سلاحاً ماضياً في يد النزعة الاستقلالية وممثليها في الدولة، في الوقت الذي كانت وسائل السلطة والتوجيه في أيدي الفرنسيين والبريطانيين وممثليهم في الإشراف على الإعلام. وكان تقي الدين الصلح اتجه الى العمل في جريدة «النداء» عام 1931، التي موّلها آل الصلح وحملت هموم النضال العربي، واستمر صدورها 9 سنوات الى أن أقفلت عام 1939 بسبب لهجتها التي لم تتقبلها دولة اشتركت في الحرب مهما بلغ إيمانها بالحرية».لبنان كلهلم يكن تقي الدين الصلح ذا قاعدة شعبية يعتمد عليها ليخوض المعارك الانتخابية، لذلك لم يترشح بعد انتهاء ولاية المجلس 1964. كان نخبوياً، نشاطه السياسي بعيد عن الاثارة والديماغوجية. وروى مرة أنه كان مع زهير عسيران يناقشان الشيخ بيار الجميل ويدعوانه الى الحوار فقال له الجميل: «يا تقي بك أنت رجل وطني محترم بس ما بتمثل المسلمين لأتفاوض معك». وقف تقي الدين الصلح واعتمر طربوشه الذي لم يفارق رأسه إلا نادراً، وهمَّ بالانصراف فاستوقفه الجميل بقوله: «لوين رايح بعد ما وصلت» فأجابه تقي الدين: «رايح سبّك عالبسطة تصير مثِّل المسلمين»! عندما ألَّف حكومته الشهيرة عام 1973 وكانت فضفاضة كثيرة العدد سأله عمر زين والتلفون في يده: «الصحافيون يسألون عن الاسم الذي تطلقه على الحكومة وهم على الخط فأجاب لتكن «حكومة كل لبنان» هكذا وبهذا الاسم عُرفت بعدها الحكومة الواسعة الكبيرة العدد وأشار غسان تويني الى أنها نوع من الحدس السياسي المبكر أو حس ما قبل الوقوع في معرض التحية لنوعية فكر بعض الاقدمين المفتقد راهنا، الموحي بأن توسيع الطربوش أولى عند الحكماء من صداع الرأس».وفي 25 تموز 1973 حرَّر بيانه الوزاري: «أمام مرحلة صعبة من تاريخ لبنان تجمعت فيها الازمات، لم يقف هذا الوطن ضائعاً مسلوب القوى، بل توافر له من ايمان ابنائه، ومن وعيهم ومن تراثهم الوطني وتجاربه، وتمسكه بتفكير المستقبل ما جهَّزه بأمضى سلاح لمواجهة الفترة التاريخية، والخروج منها بفيض جديد من القوة والفاعلية وروح المبادرة. وأثبت هذا الوطن العزيز، مرة بعد مرة، أنه قادر تماماً على تجاوز العقبات وإيجاد الصيغة الوطنية والسياسية لأصعب الظروف».كانت السياسة عنده كما كانت عند ابن عمه رياض في جملة ما هي، بل في أعمق ما هي، لا مجرّد العيش في ظل نعمة معطاة هي الوطن، بل ايضاً وخاصةً السؤال كيف يصح أن يكون هذا العيش؟ فالسياسة وإن كانت فن الممكن كما يقال، إلا أنها أولاً صورة فكرية عن المطلوب وعن القيم التي تعمل السياسة على تطبيقها. ولعل تقي الدين الصلح كان بذلك أول رئيس حكومة لبنانية يفهم أهمية هذه الظاهرة وكونها قفزة في تاريخ وطن، فيعلن ذلك كإنجاز بارز من غير أن يخشى في ذلك لومة لائم أو تحريض محرّض. لبنان، في رأي تقي الدين، لو لم يكن موجوداً، لوجب إيجاده، لا لأن ذلك إرادة أبنائه والعرب أيضا، بل لأن ذلك ضرورة من أجل طليعية لبنان المنبثقة من تعدديته الثقافية والدينية. فإما أن يكون لبنان هو مكان تفاعل الثقافات والحضارات شرط الخروج من ذلك الى الحداثة وروح العصر، أو يستمر الكبير والصغير فيه وفي هذه المنطقة مهدداً بالرجعة التي ما قامت إسرائيل إلا لدفع العرب وأقطارهم إليها.نبذةيؤرخ عمر زين لبيئة تقي الدين العائلية وجذورها الوطنية والفكرية فيقول: تلقى تعاليمه الأولى على يد الشيخ أحمد عباس الأزهري، كان يزورهم في بيتهم بعدها دخل الجامعة الاميركية (الابتدائية الاميركية) ثم درس في اليسوعية حتى الصف الثالث الثانوي، نقل بعدها الى اللاييك التي يطلق عليها اليوم اسم «الليسيه الفرنسية» ومن أصدقائه الشيخان بهيج وخليل تقي الدين ومحمد علي حمادة. وبعدم إتمام دراسته الثانوية ذهب الى فرنسا كي يكمل دراسته الجامعية، لكنه عاد الى بيروت بسبب ظروف خاصة، ودخل الجامعة الاميركية، ودرس الأدب العربي والتاريخ، خصوصاً الصليبيين، وهو بذلك عرف طرق التعليم المختلفة: الطراز الاسلامي، ثم العلماني، الاكليركي. وأثناء تدريس تقي الدين اللغة العربية في معهد البعثة العلمانية الفرنسية في بيروت، اكتشف مع غيره من الأساتذة العرب تسامح البيئة الانجيلية الفرنسية مع أهل البلاد من لبنانيين وسوريين، كما اكتشف الرقيّ والتفوق الثقافي عند الفرنسيين من أتباع الطائفة الانجيلية وسبقهم الدائم الى الفكر العلماني وتشجيعه. وبذلك كانت البعثة العلمانية في بيروت التي درّس فيها كأستاذ الأكثر ميلاً الى تفهّم مشاعر العرب وقضاياهم عامةً، سواءً في الجزائر أو المغرب أو تونس أو لبنان أو سوريا. عرف رياض الصلح هذه الظاهرة من قبل ومن بعد، فأرسل بناته وأولهن ابنته علياء، الى مدرسة الليسيه، يتعلّمن فيها.