2008: نحن بخير اطمئنُوا وطمئنونا عنكم
قدّم النظام السوري في الشهر الأخير من العام عرضاً ممتازاً لعقيدته الأمنية، ابتدأ باعتقالات واسعة ليوم وبعض يوم للعشرات من المعارضين. وكان يمكن أن يمرّ ذلك على أنه مجرّد ردّ فعل ميكانيكي على انعقاد المجلس الوطني خارج إرادته وهيمنته، ولكنه احتفظ واعتقل سبعة من قيادات إعلان دمشق، ولا توجد مؤشّرات حتى الآن على توقف الحملة أو التراجع عنها.إذا كان من معاني التفاؤل المحافظ أن يحمد المرء ربّه على أن حالته لم تتدهور كما كان ممكناً لها أن تتدهور، فنحن متفائلون، ونستقبل العام الجديد بإقبال وانفتاح، ونتمنى للجميع عاماً سعيداً.لم يتقدّم العراق خطوات إضافية باتّجاه التقسيم والحرب الأهلية والمجزرة، بل تراجع العنف الأهليّ فيه، وعاد أهله إلى التفكير في الحوار والمصالحة، وأصبحت مسألة الاحتلال والاستقلال تحصيل حاصل.ولم تنفجر غزّة الانفجار الهائل الذي كنا نخشى منه، ولا الضفّة الغربية، وتقدّم لبنان خطوة إلى أمام فاتّفق أهله على شخصية محدّدة لرئيس الجمهورية، وتحوّلت المسألة إلى حوار عقيم حول الدستور والشرعية بانتظار التوافق أو الموافقة خارج الحدود.ودخل النظام العربي في مرحلة حاسمة مع اقتراب مؤتمر القمة العربي القادم في مارس، ومصادفة أن يكون موعدها في دمشق، الأمر الذي يجبر المعنيين على مواجهة السؤال وجهاً لوجه، مع استحالة الهروب منه كالعادة القديمة.نحن في سورية جميعنا بخير...!فقد أكّد الرئيس الأسد -في خطابه في يونيو الماضي- أن «العام 2007 مصيري» وأن الأشهر المتبقية منه حاسمة، وانتهى من دون نتائج قاسية ومباشرة، علماً أنه قد جاء في الخطاب المذكور أيضاً «إن شاء الله تكون الظروف أفضل في العام المقبل»... «ونتمكن فعلا من انطلاقة واسعة»... «الشعب السوري مهيأ لعملية تطوير سياسي واسعة». ومرّ العام.وفعلاً عادت الرسل تتوافد إلى دمشق، وانتعش احتمال التفاوض مع إسرائيل في شأن الجولان خصوصاً بعد وجوده في آنابوليس، واسترخت حدود العراق، ومازال لبنان ما بين شدّ وجذب. واعتماداً على افتراض أن النظام يتعامل مع الدنيا على أنها داخل وخارج، داخل هو ذاته وحسب، وخارج هو الولايات المتحدة وحسب... فهو بخير.نحن بخير لهذا الخير، وليس كما يُقال.فمن منظور آخر يتعلّق بالمصلحة الوطنية، يبدو كأن هنالك انطباقاً عرضياً بين مصلحة المعارضة والسلطة، لأن الأخطار الداخلية والخارجية التي تهدّد النظام قد تهدّد البلاد، وبذلك تكون المسألة «مصيرية» لنا أيضاً، وبمقدار أكبر، ربّما.لكن الارتياح المذكور يبقى تقطيعاً للوقت، والنظام يمرّ في مرحلة بنيوية تقع على مفترق طرق، يعجز فيها عن الاتّجاه بأيّ الطريقين المتاحين أمامه في إطار سياسته المستقرّة في جميع الميادين، من دون فتح ملفّ احتكار السلطة والسياسة والقانون والاقتصاد... والمصير. ومهما كان الألم كبيراً، فإن جلاء الأسئلة والاضطرار للإجابة عنها مباشرة أمران لابدّ من المرور بهما، بعد أن انتهى زمن الكلام الذي ليس بكلام.معارضون عديدون في سورية يشعرون بالقلق من الحالة وعواقبها، وهم يضغطون باتّجاه لا يبدو للوهلة الأولى منسجماً مع «معارضتهم». يضغطون عملياً باتجاه حوار العالم مع النظام، وباتّجاه توقيع الشراكة مع أوروبا، ونحو تخفيف الشروط وعدم تضخيمها بطريقة «تعجيزية»... ولا يجري الحديث كثيراً عن هذا الأمر، لأسباب متعددة. يستغرب البعض أو لا يُصدّقون هذا، في ظل وحدة المعارضة وإصرارها على مطلب التغيير الوطني الديموقراطي، ولا يرون في ذلك حرصًا على البلاد وقلقاً من أيّ احتمال للتدهور والتفكّك خارج منطق التدرّج والأمان.هذه المعارضة الديموقراطية اجتازت العام الماضي بمكاسب تفوق الخسائر، فقد نجحت في عقد المجلس الوطني لإعلان دمشق داخل البلاد، واختارت له موعداً مريحاً لايستطيع النظام فيه أن يدّعي التواقت مع الضغوط الخارجية، وعن اقتناع لا حذراً وتقيةً. فما يهمّها كان ترتيب أوضاعها وبيتها، ولذلك أهمية تفوق الاعتبارات التكتيكية. ترتيب ذلك البيت كان أمراً مهماً ليس للمعارضة وحدها، بل للنظام أيضاً، لو استطاع مفارقة سياساته الموروثة من أيام الحرب الباردة وزمان الركود القديم. فالضدّ شرطٌ لوجود الضدّ واستمراره في السياسة المعاصرة.لكنه-أي النظام- لم يستطع ذلك وقدّم في الشهر الأخير من العام عرضاً ممتازاً لعقيدته الأمنية، ابتدأ باعتقالات واسعة ليوم وبعض يوم للعشرات من المعارضين. وكان يمكن أن يمرّ ذلك على أنه مجرّد ردّ فعل ميكانيكي على انعقاد المجلس الوطني خارج إرادته وهيمنته، ولكنه تابع الأمر بعد ذلك واحتفظ واعتقل سبعة من قيادات إعلان دمشق، ولا توجد مؤشّرات حتى الآن على توقف الحملة أو التراجع عنها.هذه نقطة ليست في مصلحة العام المنصرم وخيره، لكن استعادة الأمل في عودة الحياة إلى المجتمع، أو عودة السياسة بالأحرى، والانتقال إلى مرحلة أكثر عصرية ومشاركة، ووضع مسألة مواجهة الاختلاف ضمن المعارضة نفسها، أو ما بينها وبين السلطة، أو حتى ضمن السلطة نفسها، سؤال مباشر على السبّورة بخط عريض... كلّها أمور يمكن القول من خلالها: وأنتم بخير.* كاتب سوري