أحاديث الأقطاب البديلة والحروب الباردة المقبلة
لسنا بصدد صعود أقطاب بديلة أو تبلور نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب عوضاً عن الهيمنة الأميركية بل أمام فوضى عالمية مصدرها تأزم المشروع الأميركي وإخفاقاتهالمتتالية خصوصا في الشرق الأوسط يغيب عن حديث الأقطاب البديلة الرؤية الموضوعية لواقع التعاون والتنسيق بين الولايات المتحدة وكل من روسيا والصين والاتحاد الأوروبي. تكفي مجرد نظرة سريعة على حجم التبادل التجاري والعلمي والمصالح الاقتصادية المشتركة والاستثمارات المتبادلة بين واشنطن والأطراف الثلاثة لمعرفة مدى تشابكها.ما إن تبدو في الأفق ملامح لصراعات بين الولايات المتحدة وأي من روسيا أو الصين أو الاتحاد الأوروبي، حتى يسارع نفر غير قليل من الكتّاب العرب إلى إعادة إنتاج مقولات حدية حول مواجهات كبرى قادمة بين القوة العظمى وبين الأقطاب العائدة إلى مواقعها السابقة (روسيا)، أو الصاعدة (الصين والاتحاد الأوروبي).لا شك أن هناك توقاً مبرراً لدى العديد في العالم العربي لرؤية قوى دولية تنازع واشنطن وتحد من قدرتها على الإدارة المتفردة لشؤون السياسة والاقتصاد في العالم. ومصدر التبرير هنا هو من جهة الأخطاء القاتلة للانفرادية الأميركية، كما تتجلى اليوم بأشكال مأساوية في العراق ومناطق الصراع الأخرى في الشرق الأوسط، ومن جهة أخرى حقيقة أن غياب التوازن عن منظومة توزيع القوة في العلاقات الدولية يرتب بالتبعية اختزال مساحات حرية الحركة للدول الوسطى والصغيرة المتاحة لها من خلال اللعب على تنافس واختلافات القوى الكبرى. لكن المزعج في حديث الأقطاب البديلة والحروب الباردة الجديدة، وهو ارتبط في الآونة الأخيرة بالخلافات الأميركية - الروسية حول قضية الدرع الصاروخي الأميركي المزمع نشر قواعده في جمهورية التشيك وبولندا والمسألة النووية الإيرانية، هو عدم استناده إلى أسس موضوعية في التحليل ومقاربته للعلاقة بين القوى الكبرى من منظور صراعي مطلق يغيب واقع التقارب والتعاون القائم بينها وعلى مستويات عدة.فمن جهة، لا يملك أي من الأطراف الثلاثة المقترحة كأقطاب القدرة الفعلية على منازعة هيمنة واشنطن الراهنة، فموازين مقومات القوة بمعناها الشامل (hard and soft power) (القوة الخشنة والقوة الناعمة)، مائلة بوضوح باتجاه القوة العظمى وستظل كذلك في المستقبل المنظور. نعم روسيا الاتحادية تنافس الولايات المتحدة في أوروبا الشرقية والوسطى، وتتصيد الأخطاء الأميركية في أفغانستان والعراق، وتستفيد من تحسن أوضاعها الاقتصادية على خلفية أسعار النفط والغاز الطبيعي الراهنة لرفض التدخل الأميركي في شؤونها الداخلية ولصياغة سياسة خارجية نشيطة ظهرت ملامحها واضحة في أوروبا وفي الشرق الأوسط. على الرغم من ذلك لا تملك روسيا، عملياً، منع الولايات المتحدة من نشر محطات الدرع الصاروخي في جوارها الجغرافي المباشر الذي ترتبط دوله بعلاقات تحالف وثيقة مع القوة العظمى أو الحيلولة دون استقلال إقليم كوسوفو واعتراف الجزء الأكبر من الجماعة الدولية به تماماً، كما لم تتمكن خلال العامين الماضيين من التصدي لفرض عقوبات اقتصادية وتجارية تصاعدية على الجمهورية الإسلامية في إيران بسبب مشروعها النووي. تتبدى ملامح الصورة ذاتها حين النظر إلى الصين ودورها الدولي اليوم الذي تديره قيادة الحزب الشيوعي على نحو يتعارض أحياناً مع السياسات الأميركية دون أن يتحداها مباشرةً. تناوش الصين الولايات المتحدة في القارة الآسيوية وجزئياً في أفريقيا والشرق الأوسط وبعض دول أميركا اللاتينية مستخدمة لأدواتها الاقتصادية ومدفوعة ببحثها عن تأمين مصادر للطاقة والمواد الخام، لكنها لا تدير سياسة خارجية مناوئة لواشنطن، بل تتوافق معها في العديد من الأمور. أما الاتحاد الأوروبي فيرتبط بعلاقة تحالف استراتيجي بالقوة العظمى تحكم مقاربته لجل القضايا الدولية ويفتقد فيما عدا ذلك لسياسة خارجية موحدة ولأوراق فعل مؤثرة حتى حين يختلف مع السياسات الأميركية في منطقة مثل الشرق الأوسط له بها مصالح حيوية وتاريخ طويل من الوجود. ومن جهة أخرى، يغيب عن حديث الأقطاب البديلة الرؤية الموضوعية لواقع التعاون والتنسيق بين الولايات المتحدة وكل من روسيا والصين والاتحاد الأوروبي. تكفي مجرد نظرة سريعة على حجم التبادل التجاري والعلمي والمصالح الاقتصادية المشتركة والاستثمارات المتبادلة بين واشنطن والأطراف الثلاثة لمعرفة مدى تشابكها، فالولايات المتحدة هي الشريك التجاري والاستثماري الأول للصين وللاتحاد الأوروبي وأحد أكبر شركاء روسيا. كذلك تبين متابعة السلوك التصويتي للقوى الكبرى في المنظمات الدولية المختلفة وجود توافق نوعي بينها وبين الولايات المتحدة حول معظم المطروح من القضايا سياسية واقتصادية وغيرها. وقد كان الغزو الأنجلو- أميركي للعراق، هو الأمر الوحيد الذي اختلفت حوله الدول صاحبة حق (الفيتو) في مجلس الأمن على نحو حال دون استصدار قرار من المجلس، أما قضايا الشرق الأوسط الأخرى بما فيها المسألة النووية الإيرانية فقد أمكن صناعة توافق حولها.لسنا بصدد صعود أقطاب بديلة أو تبلور نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب عوضاً عن الهيمنة الأميركية، بل أمام فوضى عالمية مصدرها تأزم المشروع الأميركي وإخفاقاته المتتالية، خصوصا في الشرق الأوسط.باحث مصري في مؤسسة كارنيغي للسلام العالمي– واشنطن