أميركا واستعادة القوة الذكية

نشر في 16-12-2007
آخر تحديث 16-12-2007 | 00:00
 بروجيكت سنديكيت إن الولايات المتحدة في حاجة إلى إعادة استكشاف الكيفية التي تستطيع بها أن تتحول إلى «قوة ذكية»، كانت هذه هي الخلاصة التي انتهت إليها اللجنة الحزبية الثنائية التي اشتركت في رئاستها أخيراً مع ريتشارد أرميتاج نائب وزير الخارجية السابق في إدارة بوش. ولقد تألفت لجنة «القوة الذكية»، التي شكلها «مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية» في واشنطن، من أعضاء جمهوريين وديموقراطيين في الكونغرس الأميركي، وسفراء سابقين، وضباط عسكريين متقاعدين، ورؤساء منظمات غير ساعية إلى الربح. ولقد انتهينا إلى خلاصة مفادها أن الصورة الأميركية والنفوذ الأميركي قد انحدرا في غضون السنوات الأخيرة، وأن الولايات المتحدة لابد أن تتحول من تصدير الخوف إلى بث التفاؤل والأمل.

لم نكن وحدنا في هذا الرأي، فقد دعا وزير الدفاع روبرت غيتس حكومة الولايات المتحدة أخيراً إلى تكريس المزيد من المال والجهد لتنمية «القوة الناعمة»، بما في ذلك الدبلوماسية، والمساعدات الاقتصادية، والاتصالات، وذلك لأن المؤسسة العسكرية وحدها غير قادرة على الدفاع عن المصالح الأميركية في جميع أنحاء العالم. كما أشار غيتس إلى أن إجمالي الإنفاق العسكري يبلغ ما يقرب من نصف تريليون دولار أميركي سنوياً، مقارنة بميزانية وزارة الخارجية التي لا تتجاوز 36 مليار دولار. ولقد أقر بأنه من الغريب أن يلتمس وزير الدفاع من حكومته تخصيص المزيد من الموارد لوزارة الخارجية، وعزا ذلك إلى أن العالم لا يعيش زمناً طبيعياً.

إن القوة الذكية تتلخص في القدرة على الجمع بين القوة الصارمة وقوة الجذب الناعمة في استراتيجية واحدة ناجحة. وبصورة عامة، كانت الولايات المتحدة ناجحة في التوصل إلى هذه التركيبة أثناء الحرب الباردة؛ وفي أوقات أقرب إلى يومنا هذا، بيد أن السياسة الخارجية التي تنتهجها الولايات المتحدة اليوم أصبحت تميل إلى الإفراط في الاعتماد على القوة الصارمة، وذلك لأنها تمثل أكثر مصادر القوة الأميركية مباشرة ووضوحاً.

ولكن رغم أن وزارة الدفاع تمثل الذراع الأفضل تدريباً والأوفر مورداً، فإننا لابد أن نعترف بوجود حدود لما يمكن إنجازه من خلال القوة الصارمة وحدها. ومما لا شك فيه أن الديموقراطية، وحقوق الإنسان، وتنمية المجتمع المدني كلها غايات لن تتأتى ولن تتحقق تحت تهديد السلاح. لا نستطيع أن ننكر أن المؤسسة العسكرية الأميركية تتمتع بقدرة هائلة في ما يتصل بالعمليات العسكرية، ولكن الارتكان إلى وزارة الدفاع في كل الأمور بدعوى قدرتها على إنجاز الأمور، لابد أن يؤدي إلى تكوين صورة لسياسة خارجية أميركية مبالغ في عسكرتها.

إن الحكومة الأميركية كثيراً ما تهمل الجهود الدبلوماسية والمساعدات الخارجية أو تقتر في تمويلهما، ويرجع بعض السبب وراء ذلك إلى صعوبة إظهار تأثير هذين العاملين على المدى القريب في التحديات الحرجة. فضلاً عن ذلك فإن استخدام القوة الناعمة ليس بالأمر السهل، لأن العديد من مصادر القوة الناعمة الأميركية تقع خارج نطاق سلطات الحكومة الأميركية، أو بمعنى أدق في القطاع الخاص والمجتمع المدني، وفي التحالفات الثنائية، والمؤسسات التعددية، والاتصالات الدولية. بالإضافة إلى ذلك فإن مؤسسات السياسة الخارجية الأميركية تعاني الانقسام والتشتت، ولا توجد لدينا آلية وافية لتنمية وتمويل استراتيجية القوة الذكية.

كانت التأثيرات التي خلفتها الهجمات الإرهابية في الحادي عشر من سبتمبر 2001 سبباً في انحرافنا عن المسار الصحيح، فمنذ الصدمة التي أصابت البلاد في أعقاب تلك الهجمات أصبحت الولايات المتحدة تصدر الخوف والغضب بدلاً من القيم التقليدية المتمثلة في الأمل والتفاؤل، بل لقد تحول خليج غوانتانامو إلى رمز عالمي أقوى من تمثال الحرية.

تعترف لجنة القوة الناعمة التي تشكلت بواسطة «مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية» بأن الإرهاب يشكل خطراً حقيقياً ومن المحتمل أن يستمر معنا لعقود من الزمان، إلا أنها أشارت إلى أن الإفراط في الاستجابة للاستفزازات الإرهابية من شأنه أن يلحق الضرر بالولايات المتحدة على نحو يعجز عنه الإرهابيون أنفسهم. إن النجاح في الكفاح ضد الإرهاب يتطلب إدارة السياسة الخارجية الأميركية وفقاً لمبدأ وسط جديد يحل محل مبدأ «الحرب ضد الإرهاب».

يتلخص هذا المبدأ الجديد في التعهد بالاستثمار في توفير السلع العامة العالمية التي تحتاج إليها الشعوب والحكومات في جميع أنحاء العالم، ولكنها تعجز عن الحصول عليها من دون زعامة الولايات المتحدة وبمساعدة منها. وبهذا فقط تستطيع الولايات المتحدة أن تعيد بناء الهيكل الذي تحتاج إليه في التعامل مع التحديات العالمية القاسية.

ولقد أوصت لجنة القوة الذكية بتركيز السياسة الخارجية على خمس مناطق حرجة على وجه التحديد:

• استعادة دور التحالفات، والشراكات، والمؤسسات التعددية التي انزلق أغلبها إلى الفوضى في الأعوام الأخيرة بسبب التوجهات الأحادية.

• إعلاء دور التنمية الاقتصادية لمساعدة الولايات المتحدة في التوفيق بين مصالحها ومصالح الشعوب الأخرى في أنحاء العالم كلها، بداية بمبادرة كبرى تُعنى بتنمية الصحة العامة على مستوى العالم.

• الاستثمار في الدبلوماسية العامة التي تركز بصورة أقل على الأضواء الإعلامية وتهتم بالاتصالات المباشرة، والتعليم، وأشكال التبادل المختلفة التي تضم المجتمع المدني وتستهدف الشباب بصورة خاصة.

• مقاومة النزوع إلى فرض إجراءات حمائية ودعم المشاركة المستمرة في الاقتصاد العالمي، وهو الأمر الذي يشكل أهمية كبرى للنمو والرخاء في الداخل والخارج، مع الحرص على إشراك أولئك الذين تُرِكوا وراء الركب بسبب التغيرات التي أحدثها الاقتصاد الدولي المفتوح.

• العمل على إيجاد وتشكيل الإجماع العالمي وتنمية التقنيات الإبداعية اللازمة للتعامل مع التحديات العالمية المتصاعدة الأهمية في مجالي أمن الطاقة وتغير المناخ.

إن تطبيق هذه الاستراتيجية المعتمدة على القوة الذكية يتطلب إعادة التقييم استراتيجياً لكيفية تنظيم وتنسيق وتمويل الحكومة الأميركية، ويتعين على الرئيس القادم أن يفكر في عدد من الحلول الإبداعية القادرة على تعظيم قدرة الإدارة الأميركية على تنظيم نفسها وإحراز النجاح، بما في ذلك تعيين مجموعة من كبار المسؤولين القادرين على الوصل بين الهيئات المختلفة للإدارة بهدف موازنة الموارد على نحو أفضل.

كل هذا يتطلب قدراً لا يستهان به من الإبداع والابتكار، ولكن الولايات المتحدة كانت في الماضي قوة ذكية، وتستطيع أن تتحول إلى قوة ذكية من جديد.

* جوزيف س. ناي | Joseph Samuel Nye، مساعد وزير دفاع الولايات المتحدة الأسبق، وأستاذ بجامعة هارفارد، ومؤلف كتاب «قوى الزعامة».

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top