كوارث الدكتاتوريات العسكرية على العالم العربي

نشر في 28-08-2007
آخر تحديث 28-08-2007 | 00:00
 د. شاكر النابلسي

ما تقوم به الدكتاتوريات العسكرية العربية من إصلاحات جزئية عندما تتولى الحكم، لا يتعدى أن يكون خدمة لمصالحها ولإبقائها في الحكم أطول مدة ممكنة. ولم تكتف ِبوضع القضاء والثقافة والإعلام تحت ضرسها وسيطرتها الكاملة، لكنها وضعت أيضاً المؤسسات الدينية كذلك.

منذ فجر الاستقلال السياسي الصوري العربي، ابتلي العالم العربي بكوارث سياسية ماحقة نتيجة لتسلط العربية على مقدرات هذه الأمة.

ونستطيع أن نلخص هذه الكوارث التي ألحقتها الدكتاتوريات العسكرية بالعالم العربي، وأعاقت من خلالها نمو وتطور الدولة العربية الحديثة، على الوجه التالي:

1 - قيام حكم الحزب الواحد ومنع التعددية. فالانقلابات العسكرية التي تمت في مصر وسورية والعراق والجزائر وليبيا والسودان واليمن، جاءت بحكم الحزب الواحد. فحكم الحزب الواحد القوي هو نتاج الحركات القومية والثورية التي تأتي من القاعدة لكي تستولي على الحكم. في أن الانقلابات العسكرية تأتي من فوق، من القمة لكي تحكم بمنطق الحكم المطلق.

2 - جاءت الدكتاتوريات العسكرية في الدولة العربية الحديثة بقيم سياسية وثقافية، تختلف عن قيم المجتمع المدني. ففي حين أن قيم المجتمع المدني هي الحرية والديموقراطية والمساواة والسلام، فإن قيم الدكتاتوريات العسكرية هي الطاعة والانضباط والقوة. من ناحية أخرى، فإن الدكتاتوريات العسكرية في العالم العربي ترفض مجموعة المنجزات الثقافية والسياسية والاجتماعية للحضارة الغربية، وتعتبرها من مظاهر الاستعمار. وتعتبر الدكتاتوريات العسكرية العربية أن «كل ما قدمه الإنكليز والفرنسيون أيام استعمارهم لمصر وبلاد الشام من إيجابيات أصبح مشبوهاً ومتهماً»، كما يقول أنور عبد الملك في كتابه (مصر مجتمع جديد يبنيه العسكريون).

3 - كانت الدكتاتوريات العسكرية العربية تعاني عدم تأهيلها علمياً وثقافياً وسياسياً لمثل المهام الصعبة التي تولتها أثناء حكمها. فهي فئات منضبطة ولكنها بعيدة جداً عن علم وفن السياسة. وقد أوقع هذا الجهل بالسياسة قيادات الدكتاتوريات العسكرية العربية في مآزق ومطبات سياسية مختلفة، كلّفت شعوبها خسائر مادية واقتصادية وسياسية هائلة.

4 - كانت الدكتاتوريات العسكرية العربية في بعض البلدان العربية تعتبر المعارضين لحكمها من الخوارج. وبأنهم من ذوي الفكر الإيديولوجي الواحد. وبأنهم غير قادرين على الاتفاق مع الاتجاهات الأخرى. وأن أغلب هؤلاء المعارضين هم من الحرس القديم للأحزاب السياسية اليسارية، خاصة الشيوعيين منهم. كما أن الدكتاتوريات العسكرية العربية كانت تصرُّ على ارتباط دعاة المجتمع المدني من المعارضين بالاستعمار الجديد الذي لم يعد بحاجة إلى جيوش. وأن المجتمع المدني تعبير أميركي ليس موجوداً في أي مكان إلا في أميركا.

5 - أصبح القضاء تحت إبط الدكتاتوريات العسكرية العربية، التي حكمت بعض البلدان العربية. وقد تم استعمال القضاء من قبل الدكتاتوريات العسكرية العربية للتخويف والترهيب. فما لم يقم الاستعمار السابق للعالم العربي بفرضه كالأحكام العرفية وقوانين الطوارئ وإقامة المحاكم العسكرية وخلاف ذلك، قامت الدكتاتوريات العسكرية العربية به لإخافة وإرهاب المعارضة السياسية.

6 - إن قيام الدكتاتوريات العسكرية العربية في بعض البلدان العربية أدى إلى منع تربية ونشوء قيادات سياسية تستطيع تولي الحكم مستقبلاً فيما لو انزاحت الدكتاتوريات العسكرية العربية. وقد رأينا ماذا فعل صدام حسين في العراق حين أفرغ العراق من النخب السياسية كلها المحتمل أن تحكم العراق مستقبلاً. وعندما تم خلع صدام حسين لم تجد أميركا أمامها نخباً سياسية تستطيع إدارة البلاد إدارة حسنة. ومازال العراق حتى الآن يتخبط بالدماء وبالقتل اليومي نتيجة للفلتان الأمني ونتيجة لعدم وجود حكومة قوية تستطيع السيطرة على الشارع العراقي. وقد امتد هذا الوضع منذ عام 2003 إلى الآن. كذلك الحال في كثير من البلدان العربية التي مازالت تحكمها الدكتاتوريات العسكرية العربية التي ليس من الضروري أن يكون الحاكم فيها جنرالاً سابقاً، ولكن يكفي أن يحكم البلد بنظام الثكنة العسكرية.

7 - من المسلّم به أن ارتقاء الثقافة في أي أمة من الأمم، يعتبر السبيل السليم إلى تكوين نخب سياسية منبثقة عن أحزاب سياسية مؤهله لتولي الحكم وقيادة البلاد قيادة حكيمة ورشيدة. ولكننا لاحظنا أن الدكتاتوريات العسكرية العربية في بعض البلدان العربية، عندما تولت الحكم حطّت من قيمة الثقافة العربية وذلك من خلال فرض الرقابة على الأنشطة الجامعية والفكرية. وكذلك تأميم وسائل الإعلام كافة وفرض رقابة صارمة عليها. واعتبار أن لا عقل يفكر في البلد غير عقل النظام، ولا رأي سياسياً أو اقتصادياً أو اجتماعياً أو ثقافياً يسود غير رأي النظام. وفرض فكر الدولة العسكرية على مناهج التعليم في المراحل المختلفة. والقيام بعملية تطهير واسعة النطاق لمعظم الأكاديميين الليبراليين، وتفريغ المجتمع المدني - إن كان قائماً - ومؤسساته منهم.

8 - لم تكتف ِالدكتاتوريات العسكرية العربية في بعض البلدان العربية بوضع القضاء والثقافة والإعلام تحت ضرسها وسيطرتها الكاملة، لكنها وضعت أيضاً المؤسسات الدينية كذلك. فحرمت المؤسسات الدينية من الاستقلال الذاتي الذي تمتعت به في عهد الاستعمار الغربي، وفي عهد الاستعمار العثماني كذلك. وقامت الدكتاتوريات العسكرية العربية في بعض البلدان العربية بتأميم آلاف المدارس الدينية، وأملَت عليها مناهجها التعليمي الخاص بها. كما قامت الدكتاتوريات العسكرية العربية بتوجيه المؤسسات الدينية توجيهاً سياسياً يتماشى مع مصالحها وأهدافها. وكان منها أن أقحمت رجال الدين في السياسة بالقوة وبالقهر، مما نتج عنه - كما نشاهد الآن - في العالم العربي انتشار الأحزاب الدينية السياسية، وتدخل رجال الدين في السياسة من خلال هذه الفتاوى الدينية - السياسية المتضاربة التي نقرأها كل يوم، والتي تلعب دوراً رئيساً في زيادة وتعميق فتنة الإرهاب.

9 - في ظل الدكتاتوريات العسكرية العربية في بعض البلدان العربية، تحوّلت الفكرة القومية من فكرة للأمة جمعاء إلى فكرة حزبية، بعملية اختزالية تحتاج اليوم إلى نقد جريء وعميق. ثم تحولت الفكرة القومية من فكرة حزبية مدنية إلى فكرة حزبية عسكرية، ومن فكرة مجتمعية إلى سلطة عسكرية. وعلينا اليوم أن نعترف بأن الكثير من النقد الذي وُجه إلى الفكرة القومية وإلى الحركة القومية إنما كان بتأثير من المؤسسة العسكرية التي أقامت شرعيتها على الفكرة القومية. وصادرت التعبير عنها والتمثيل لها، وقدمت للجمهور أسوأ صورة ممكنة عن المشروع القومي.

10 - عندما تولت الدكتاتوريات العسكرية العربية الحكم في بعض البلدان العربية تم مزج النشاط السياسي مع النشاط العسكري. وتم فتح الأحزاب السياسية لأبوابها لدخول العسكريين القدامى، وتحولهم إلى سياسيين. ونحن لا نرى غضاضة في ذلك، شرط أن يأتي هؤلاء العسكريون من خلال «صناديق الاقتراع» النظيفة النزيهة، وليس من خلال «صناديق الإتباع» المزورة، أو على ظهور الدبابات من خلال انقلاب عسكري.

11 - إن ما تقوم به الدكتاتوريات العسكرية العربية من إصلاحات جزئية عندما تتولى الحكم، لا يتعدى أن يكون خدمة لمصالحها ولإبقائها في الحكم أطول مدة ممكنة. فلقد أحالت الدكتاتوريات العسكرية، التي حكمت أجزاء من العالم العربي طوال نصف قرن مضى ولايزال بعضها في الحكم حتى الآن، بعض البلدان العربية، إلى بلدان من دون استراتيجيات، ولا خطط، ولا مشاريع وطنية. وما يستولي على المراقب السياسي للأوضاع العربية اليوم هو الشعور المؤلم بانعدام الرؤية والافتقار الى الإرادة، ومن ثم غياب القيادة والاستسلام إلى المصير القدري. كما يقول برهان غليون في (نهاية الحقبة الوطنية العربية).

12 - بعد أن استولت الدكتاتوريات العسكرية العربية على الحكم، أصبح الانضمام إلى صفوف الجيش أقصر الطرق للوصول إلى المناصب السياسية. «فكان يمكن للضابط أن يرى نفسه على سطح الحياة السياسية بعد مدة وجيزة. وهو بهذا يصل إلى القمة،من دون أن يكون قد نسي أو تناسى أحقاده الطبقية. والضباط الذين كانوا دائماً وراء التحولات الاشتراكية، كان يُذكي عملهم الاشتراكي شعور واضح متوتر بالطبقية» (جورج جبّور، «الفكر السياسي المعاصر في سورية»). ومن هنا أصبح الجيش «جنة الوظائف». «فلا عجب أن يكسب الجيش صفة نموذج المستقبل، وأن يتطلع إليه القوم كأداة للتنمية والإنماء، ومثالاً للانتعاش الاجتماعي» (فؤاد خوري، «العسكر والحكم في البلدان العربية»). وهذا المظهر في الحياة العربية، وفي طريق بناء الدولة الحديثة، قد أخلّ ببناء المجتمع وأخّر كثيراً ميلاد الدولة العربية الحديثة.

***

ومن خلال هذه الأضرار، وأضرار أخرى كثيرة، لحقت بالمجتمع العربي خلال النصف الأول من القرن العشرين ومازال هذا المجتمع يتجرّع كؤوس المرارة من الدكتاتوريات العسكرية العربية، نرى أن الضرر قد لحق كثيراً بالدولة العربية الحديثة بعد الاستقلال. ولعل الفشل الذي شاهدناه في النصف الثاني من القرن الماضي إضافة إلى ما نشاهده الآن، قد كان من الأسباب الرئيسية لفشل الدولة العربية الوطنية بعد الاستقلال في تحقيق الطموحات والآمال الوطنية في الحرية والديموقراطية والمجتمع المدني السلمي. مع الأخذ بعين الاعتبار أن الدولة العربية الوطنية بعد الاستقلال كانت في معظم أنحاء العالم العربي - ماعدا دول الخليج - تتمثل بأنظمة الحكم الدكتاتورية العسكرية التي نشأت عشية الاستقلال مباشرة.

* كاتب أردني

back to top