مشابهة العالم والتشبه به

نشر في 11-03-2008
آخر تحديث 11-03-2008 | 00:00
 ياسين الحاج صالح

واجب النخب والمثقفين قبل غيرهم، هو أن نناضل من أجل أن نشبه العالم ونتشبه به، لا أن نختلف عنه ونخالفه. يتعارض هذا التوجه مع نازع متأصل في الثقافة والسيكولوجية العربية نحو «الأصالة» والتفرد والاختلاف، ويتناسب أكثر مع الاشتباه بالعالم والإعراض عنه.

يريد مثقفون عرب الديموقراطية والتقدم لبلدانهم، لكنهم لا يوفرون فرصة من دون رفع أسوار شك وحواجز اختلاف عن العالم وحفر خنادق لمواجهته. هذا لا يتناسب مع ذاك، لا سياسياً ولا نفسياً ولا ثقافياً. ديموقراطية وتقدم يعني تقليص الفوارق عن العالم المحيط بنا إلى أقصى حد، يعني التفكير والتصرف على أساس أننا مثل غيرنا، لا أقل ولا أكثر، يعني رفض الخصوصيات، سواء كان سندها دينياً أو ثقافياً أو جيوسياسياً، ويعني كذلك مقاومة عقد النقص ورفض عقد التفوق.

هذه سمات موقف نفسي وذهني لاغنى عنه من أجل الديموقراطية والتقدم. أنسب للاستبداد وللجمود، بالعكس، تغذية موقف انسحابي من العالم وإنكار اختلاطنا به ومشابهتنا له. أنسب للرجعيين والمحافظين في الغرب أيضاً نصب أسوار وحفر خنادق، وهم لا يكفون عن ذلك. وهو ما لا تكف عن فعله إسرائيل أيضاً. بل هي جسدته مادياً أكثر من غيرها بتشييد جدار عازل وبمراكمة أداوت قوة وعنف تعادل مفعول أعلى الأسوار الدفاعية في أزمنة خلت.

ما لا يتبينه مثقفون عرب يحصل أن ينسبوا أنفسهم إلى التقدم والديموقراطية أنهم شركاء لأشد القوى محافظة ورجعية في الغرب، وهي القوى النافذة الكلمة اليوم في السياسة والأعلى صوتاً في الثقافة. ويرسي الشركاء هناك أسوارهم على ركائز من الاختلاف الثقافي أو الحضاري، فيتحدثون عن صراع الحضارات أو عن غرب يهودي مسيحي أو عن معجزة أوروبية، فيما يتكلمون هنا عن الجهاد والأصالة والخصوصية وحضارة عربية إسلامية.

ليس موقفنا الانعزالي والمتوجس هو ما أسّس للتعازل العالمي المرشح للتعمق، لكنه لا يسهم في الحد منه، ولا يخدم التنصل من المسؤولية الشائع في أوساطنا، المتمثل في القول إننا نرد على العدوان أو نقاوم التمييز واللامساواة، في غير ترسيخ الانفصال عن العالم والغربة فيه. والحالة الذهنية هذه أوفق للتحجر في أوضاع قديمة منها للانخراط المسؤول في ألعاب العالم وصراعاته المتجددة أبداً.

ليس العالم عادلاً، لكنّ في الانخراط فيه كسباً وخسارة، بينما لا يفضي الانفصال عنه إلا إلى القزامة الحضارية والنفسية والسياسية التي يبدو أننا أدمنا عليها فلم نعد نطيق منها خروجاً. خسارة محضة.

نحن أيضا لسنا عادلين، لسنا أمة غرة بريئة، ولدت البارحة، لقد سبق أن فتحنا بلداناً وغزوناً شعوباً وأخضعنا ثقافات واحتقرنا أدياناً، ورفعنا أنفسا فوق غيرنا، وفي سجلنا من المظالم ما يصمد للمقارنة مع ما في سجل الإمبراطوريات القديمة والإمبرياليات الحديثة. ما من فاتح هو أرحم من غيره، لأن الفتح والرحمة يقعان في عالمين مختلفين. ومن شأن إدراك مسؤوليتنا، قديماً واليوم، أن يسهم في تحريرنا من موقف النهنهة الكئيبة المثيرة للاحتقار، ومن شأنه بالخصوص أن يحثنا على الانسلاخ من سيكولوجيا الضحية الدائمة.

لسنا مركز العالم أو أفضل الأمم، لكننا لسنا كذلك عالة على العالم أو أيتاما غرباء على موائد مقتدريه. هذان موقفان لا نكف عن التحول من أحدهما إلى الآخر، أو نحملهما معاً وفي الوقت نفسه. لا نكف كذلك عن تغيير موقعنا ضمن ما يسميه متكلمو الإنكليزية «لعبة اللوم» أو التلاوم، فنتحول من لوم الآخر إلى لوم أنفسنا وتجريحها، أو من لوم الذات إلى إدانة الآخر وتغذية الضغينة حياله، لكن من دون أن نخرج من نفس اللعبة وعليها.

الموقف المعافى نقيض هذين معاً. إننا في هذا العالم منه ومعه، شركاء فيه، نصارع من دون جحد المشترك مع غيرنا، ونشارك من دون استعداد للذوبان في غيرنا. لاملامة ولامُلاوَمة. هذا ما نفترض أنه أساس سيكولوجية سوية من أجل التقدم والديموقراطية.

الواجب، إذن، واجب النخب والمثقفين قبل غيرهم، هو أن نناضل من أجل أن نشبه العالم ونتشبه به، لا أن نختلف عنه ونخالفه. يتعارض هذا التوجه مع نازع متأصل في الثقافة والسيكولوجية العربية نحو «الأصالة» والتفرد والاختلاف، ويتناسب أكثر مع الاشتباه بالعالم والإعراض عنه. والنازع هذا وثيق الصلة بالنزعة القومية الرومانسية التي تجعل الكبرياء أخص خصائص الشعور القومي. ومن جهة أخرى لا تعارض بين إرادة مشابهة العالم والانتماء إليه وبين الإبداع بوصفه اجتراح حلول جديدة لمشكلات جديدة، بل إن الإبداع غير ممكن في عالم اليوم على غير أرضية الحداثة العلمية والسياسية، بما في هذه الديموقراطية والعلمانية والليبرالية. أما نازع الأصالة الموسوس بمشابهة الذات فهو الطريق العكسي للإبداع. ففي النهاية الموتى وحدهم هم من يشبهون أنفسهم تماماً.

لا شيء مما سبق يقضي أن يكون العالم معرضاً للعدالة والإنصاف، ولا شيء فيه ينفي وقائع العدوان والصراع في هذا العالم الوحيد الذي يضمنا مع أصدقائنا وخصومنا وأعدائنا. إنه حث على موقف نفسي أكثر إقبالاً على العالم، يعتبر الوقائع تلك من عاديات الحياة التي تعالج بالحكمة والذكاء، بالمقاومة في العالم لا بمقاومة العالم. الحرد لا يجدي، ورثاء الذات عقيم. وهما أجدر بالازدراء منهما بالاحترام.

في المحصلة، لامجال لتقدمنا من دون تغير سيكولوجي عميق. إن جيلا متحررا من لعبة اللوم هو المؤهل لقيادة انخراط العرب في العالم، بتواضع لكن باحترام للذات، وبجسارة لكن باحترام للآخر، أما أجيالنا الحاضرة فقد فسد ضميرها إلى درجة أن تحررنا ربما يقتضي أولاً التحرر منها.

* كاتب سوري

back to top