نهاية التاريخ الاقتصادي

نشر في 02-03-2008
آخر تحديث 02-03-2008 | 00:00
من المؤكد أننا في عالم يتسم بالوفرة والرخاء، قد نتمنى أن تستمر طبقة النخبة في التوسع والازدهار. ولكن رغم محاولات خبراء الاقتصاد كلهم في الإجابة عن مسألة الغايات التي يسعى أي نظام اقتصادي إلى تحقيقها، فإن فهم كينيز للاحتياجات البشرية كان يجسد توليفة شديدة الغرابة بين الغطرسة والسذاجة. وليس من المدهش ألا يتمكن مثل ذلك الفهم من البقاء.
 بروجيكت سنديكيت يبدو أن بعض الأعمال الأكاديمية، لأسباب قد تكون غامضة نسبياً على الأقل، تخلف أثراً مستديماً على تاريخ الفكر الإنساني. ويصدق هذا على الرسالة التي نشرها جون ماينارد كينز تحت اسم «الاحتمالات الاقتصادية لأحفادنا».

إن أهمية هذا البحث لا تكمن في الكيفية التي أجاب بها عن التساؤلات التي طرحها، بقدر ما تكمن في طبيعة التساؤلات ذاتها. تُـرى هل يكون في نجاح النظام الرأسمالي في أداء وظيفته نهاية لمشكلة النُـدرة- وبالتالي زوال الرأسمالية ذاتها؟ وكيف لنا أن نتصور بقدر معقول من التوفيق كيف قد تبدو حياة الناس في عصر كهذا؟

بدأ كينز فحصه لهذه التساؤلات بحسابات تفاضلية للفائدة المركبة والنتائج المذهلة التي قد تترتب عليها حين تطبق لفترات طويلة. فبمعدل نمو %2 سوف يتضاعف أي رقم، بما في ذلك الناتج المحلي الإجمالي، إلى 7.5 أمثاله خلال قرن واحد من الزمان. هل يعني هذا أن مشكلة الندرة- التي تشكل الأساس الذي تقوم عليه النظم الاقتصادية كافة- قد يكون في هذه الزيادة حلها؟

في رأي كينز كان الرد على هذا التساؤل بالإيجاب الصريح، وذلك لأن مثل هذه الزيادة من شأنها أن تسمح بإشباع ما أطلق عليه «الاحتياجات المطلقة». الحقيقة أن كينز كان مدركاً تمام الإدراك أن الاحتياجات النسبية- «القائمة على التطلع إلى الأفضل»- لن تُـشبَع أبداً، إلا أنه تصور أن هذه الاحتياجات قد تصبح في مرتبة ثانية من الأهمية، وبعيدة عن البحث عن الحياة الكريمة إلى الحد الذي يجعل السعي إلى إشباعها يبدو وكأنه ضرب من الهوس. وطبقاً لنظرة كينز فإننا سوف نتعلم بالتدريج كيف «نكرس طاقاتنا الإضافية لأغراض غير اقتصادية».

ولكن عند هذا الحد تنتهي العمليات الحسابية ويبدأ تعقيد الطبيعة البشرية في العمل. فكيف لنا أن نعرف «الاحتياجات المطلقة»؟ أهي احتياجات مستقلة عن الزمان والمكان؟ وهل كانت هذه الاحتياجات هي ذاتها عند بداية القرن العشرين كما هي الآن؟

عند هذه النقطة تبدأ فرضية كينز في التعرض للمشاكل. فبمجرد أن نهجر الوهم الذي يصور لنا العوامل الاقتصادية وكأنها عوامل قائمة بذاتها وقادرة على الاستمرار إلى الأبد، سوف يتبين لنا أن الاحتياجات المطلقة لا يمكن تمييزها عن الاحتياجات النسبية، وذلك لأن السلع التي تشبع احتياجاتنا تتغير بتغير الزمان والمكان. على سبيل المثال، ارتفع متوسط عمر الإنسان المتوقع مع الوقت بفضل التقدم الملموس في مجالي الطب والصحة العامة، وبفضل تزايد جودة وتنوع السلع (على سبيل المثال الأغذية الأكثر أماناً). إن الطلب على السلع الأفضل (والخدمات الأفضل) القادرة على تلبية احتياجاتنا غير محدود وغير مقيد، وهذا الطلب يعمل كمحرك للعلم والإبداع.

ربما يكون كينز في نظرته هذه قد اعتمد بشدة على هذا التصوير المبالغ في التبسيط للاحتياجات البشرية، سعياً إلى إثبات فرضيته التي تقول «إن المشكلة الاقتصادية ليست هي المشكلة الدائمة بالنسبة للجنس البشري». ورغم المبالغة في وجهة النظر هذه، فإنها ليست على خطأ بالكامل في نظر المؤمنين بالتقدم الاقتصادي والاجتماعي. فعلى أقل تقدير، لا ينبغي لمشكلة الندرة أن تتحول إلى قضية حياة أو موت. فالمطلوب كله يتلخص في رفع مستويات المعيشة وتحقيق التماسك الاجتماعي- أو رفض تعريض حياة الفقراء للخطر بسبب العجز في القدرة على إعادة توزيع الثروة. إلا أن الندرة سوف تظل باقية رغم هذا، إذ إنه لا وجود لحالة ثابتة لا تتغير، حيث يتم إشباع الاحتياجات كافة ويتوقف الجنس البشري عن التطلع إلى مستقبل أفضل.

بيد أن النبرة التأكيدية فيما يقوله كينز هنا تشير إلى اعتقاده الراسخ في تصنيفه للاحتياجات. وهو يرى أن الأمر الأبغض إلى نفسه يتمثل في طلب الرأسمالية باعتبارها غاية في حد ذاتها. فالرأسمالية وسيلة تتسم بالكفاءة، إلا أن الشيوعية المحضة هي الغاية الأخلاقية الوحيدة لأي نظام اقتصادي. وعند هذه النقطة «سوف يُـنظَر إلى حب تملك المال باعتباره مرضاً مثيراً للاشمئزاز، أو ميلاً من تلك الميول شبه الإجرامية شبه المريضة التي تستدعي العلاج لدى المختصين في الأمراض العقلية».

يرى كينيز أن هؤلاء الذين سيتمكنون من تهذيب احتياجاتهم النسبية غير المشبعة هم فقط الذين سوف يهتدون إلى السبيل القويم في الفردوس الجديد. «يتعين علينا أن نكرم ونبجل هؤلاء الذين يستطيعون أن يعلمونا كيف نعيش ساعتنا ويومنا على نحو فاضل، هؤلاء الأشخاص المبهجون الذين يستمتعون بكل شيء من حولهم، إنهم زهور البستان التي لا تكدح كي تنشر أريجها في الأثير».

يبدو أن كينز كان يمجد نوعاً من شيوعية النخبة. ومن المؤكد أننا في عالم يتسم بالوفرة والرخاء، قد نتمنى أن تستمر طبقة النخبة في التوسع والازدهار. ولكن رغم محاولات خبراء الاقتصاد كلهم في الإجابة عن مسألة الغايات التي يسعى أي نظام اقتصادي إلى تحقيقها، فإن فهم كينيز للاحتياجات البشرية كان يجسد توليفة شديدة الغرابة بين الغطرسة والسذاجة. وليس من المدهش ألا يتمكن مثل ذلك الفهم من البقاء.

* جون-بول فيتوسي ، أستاذ علوم الاقتصاد لدى معهد باريس للدراسات السياسية، ورئيس مركز الدراسات الاقتصادية التابع لمعهد باريس للدراسات السياسية بباريس (OFCE).

«بروجيكت سنديكيت»/«المرصد الفرنسي للأحوال الاقتصادية» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top