حضرة المحترم نجيب محفوظ

نشر في 07-09-2007
آخر تحديث 07-09-2007 | 00:00
 محمد سليمان

أظن محفوظاً قد حلم في مرحلة ما كبعض كتّاب جيله بالمستبد العادل البنَّاء القادر على إزاحة الفساد واللامبالاة والفوضى والانكسار والضعف، لكنه كمبدع كبير قدَّم لنا في أعماله الوجه الآخر للقوة، أي الضعف، وبالتالي حشا هذه الأعمال بزخم الحياة وصراعاتها وجعل أبطاله بشراً يعيشون معنا.

يذكرنا تمثال الكاتب المصري، الذي اخترق الأزمنة لكي يطل علينا ويدعونا إلى القراءة والتأمل والمعرفة، بنجيب محفوظ الذي كانت الكتابة له هوية ومهنة ووجوداً والذي مر عام على غيابه.

نجيب محفوظ كان على ما أظن «كاتبنا العمومي» الحاضر دائماً والمنذور للكتابة، وكان أعظم الروائيين، أثراً وتأثيراً في رجل الشارع. ورأى الناس في رواياته وقصصه أنفسهم وحيواتهم؛ واستطاع أن يوظف تجربته الحياتية الكبيرة لمصلحة رواياته وقصصه (الشوارع، المقاهي، مكاتب الموظفين، قراءاته، مشاهداته... وحتى بعض أصدقائه ومريديه)؛ وهو أيضا أحد أكبر كتابنا الذين استطاعوا الوصول إلى البسطاء والأميين في القرى والكفور والنجوع، بعد أن تحولت أعماله إلى أفلام سينمائية ومسلسلات وسهرات درامية، وبعد أن صار لأبطال رواياته كل ذلك الحضور في الوعي والذاكرة.

● من دون مغالاة، نستطيع أن نقول إن نجيب محفوظ هو الأب المؤسس للرواية العربية التي لم يكن لها قبل ستين أو سبعين سنة وجود لافت أو محسوس، فقد كان الكُتّاب في ذلك الوقت لا يعتبرون الرواية فناً عظيماً يستحق التفرغ له والانكباب عليه، فكانوا يكتبون رواية أو اثنتين ثم يتوقفون أو يتجهون إلى أشكال أدبية وكتابية أخرى، لكن محفوظ منح الرواية كل عمره وتجاربه وخبراته الشخصية، وظل على مدى ستين سنة مخلصاً لها عاكفاً عليها يجود ويجرب ويطور وينتقل من الرواية التاريخية إلى الرواية الواقعية، فالرمزية إلى أن يقف على حافة الواقعية السحرية والأسطورية، ويوغل في عوالم الفانتازيا وأحوال التصوف ابتداءً من الحرافيش وانتهاءً بأحلام فترة النقاهه.

● من حواري ومقاهي الجمالية انطلق نجيب محفوظ كي يرسم لوحة كبيرة وحية للحياة المصرية في القرن العشرين، الأحداث، التحولات، الصعود، الانكسار والهزائم، وبرغم اتهامه بالصمت أحياناً وموالاة السلطة، فإن أعماله التي اتخذت من القمع والاستبداد والفساد السياسي «القاهرة الجديدة»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«ميرامار» وغيرها، التي انزرعت في الوعي العام تؤكد أصالته وقدرته على الرفض والفضح والمقاومة.

كما تعرض محفوظ في بداية الثمانينيات وقبل حصوله على جائزة نوبل إلى حملة من بعض نقادنا الذين اعتبروه كاتباً تقليدياً يحارب الكتابة الجديدة ويحجب بظله الثقيل كتاب الستينيات والسبعينيات، وقد انتقل هؤلاء النقاد إلى صفوف المداحين والمصفقين للكاتب الكبير بعد حصوله على الجائزة.

● كدارس للفلسفة، انشغل محفوظ في العديد من أعماله بالوجود وقضاياه المعقدة وفكرة القوة والإنسان القوي «السوبرمان»؛ القادر والفاعل والبنّاء، وهي فكرة تسللت إليه من الفلسفة الألمانية «نيتشة، شوبنهاور»، واتخذت العديد من الأشكال والظلال في رواياته وقصصه، ربما لأن محفوظ عاش وعاصر معظم أحداث القرن الماضي فاتسعت تجربته وانفتحت لتأمل الواقع والصراعات والحروب والانتصارات والهزائم.

وشاهد كاتبنا نشوء وانهيار إمبراطوريات ونظم، فحلم بالمخلص القادر والقوي، وأبرز القوة كمحرك بارز وأساسي للوجود. وبوسعنا أن نشير إلى قوة الإرادة في «الثلاثية»، وقوة المعرفة والعلم في «أولاد حارتنا»، وقوة المنصب الوظيفي وسطوته في «حضرة المحترم»، والقوة المادية والجسدية في «الحرافيش» والعديد من القصص، والقوة الروحية في أعماله الأخيرة.

وأظن محفوظا قد حلم في مرحلة ما كبعض كتاب جيله بالمستبد العادل البنَّاء القادر على إزاحة الفساد واللامبالاة والفوضى والانكسار والضعف، لكنه كمبدع كبير قدَّم لنا في أعماله الوجه الآخر للقوة، أي الضعف، وبالتالي حشا هذه الأعمال بزخم الحياة وصراعاتها وجعل أبطاله بشراً يعيشون معنا وبيننا.

● البساطة والتواضع والزهد فضائل محفوظية يعرفها الجميع كذلك حبه للبشر والتزامه بواجباته كمبدع، فقد ظل دائما يطور ويجرب ويحاول تجديد ذاته وإبداعه. هذا التجديد الذي جعل من الصعب حبسه في تيار إبداعي ما أو مدرسة فنية بعينها. وقد تعلمنا منه فضائل الصبر والدأب والمثابرة والإصغاء إلى ما بداخلنا والكتابة فقط عن القريب والحميم وما نعرفه جيداً. وقد نختلف معه في بعض آرائه، وقد ندعو الروائيين الجدد إلى التمرد عليه والانحراف عنه فنياً، لكننا نظل دائما نعترف بريادته وأبوته ودوره كمؤسس للرواية العربية.

* كاتب وشاعر مصري

back to top