ثلاثية دانتي الموسيقية

نشر في 07-02-2008
آخر تحديث 07-02-2008 | 00:00
No Image Caption
 فوزي كريم الموسيقى عادة ما تبدو فنا مجردا، خالصا لذاته، إنها لا تتحول إلى مجرد وسيلة للمعاني أو للحكاية وللعواطف خارجها، كما نرى الأمر يحدث مع الكلمات، وبصورة واضحة، فالكلمات إذ تتدفق لا تكاد تُلفت نظر قارئها إليها، بفعل متابعته للمعاني أو الأحداث التي تدل عليها، لكن الموسيقى ترتبط بعلاقة حميمة مع الأدب في أحيان كثيرة، تصبح غير مكتفية بذاتها، بل دالّة على معاني خارجها، يحدث هذا حين يلجأ المؤلف الموسيقي إلى استيحاء عمل أدبي، شعرا أو نثرا، لكن هل تصبح الموسيقى حينها أشبه بموسيقى تصويرية، كتلك التي نعرفها في السينما؟... بالتأكيد لا، لأنك لا يمكن أن تغفل تدفقها وأنت تتابع المعاني والمشاعر التي تدل عليها، إن تدفقها كإيقاع ولحن وهارموني هو الذي يطربك بالدرجة الأولى، حتى لتستطيع أن تتنازل عن حكاية شهرزاد برمتها، وأنت تصغي إلى سيمفونية «شهرزاد» الشهيرة للروسي كورساكوف.

بين يديّ عمل موسيقي جديد لمؤلف جديد، لا أحسب أنه مألوف عند محبي الموسيقى، هو الأميركي تشارلز وورينين (مواليد 1938)، وعمله «ثلاثية دانتي» بمادتها الأدبية الواضحة.

كل جزء من هذا العمل الموسيقي يلاحق مرحلة من مراحل الكوميديا الثلاث: الجحيم، المَطْهَر، والفردوس، وكما تستأثر بك مواقف ومشاهد وشخوص في الكوميديا، كذلك استأثرت بالمؤلف الموسيقي الذي عُني بالتوقف عند التفاصيل، وخلق المناخ الموسيقي، بدل رغبة أن يعكس مسلسل حكاية دانتي.

وواضح أن هذا كان هدف دانتي أيضا، فبعد أكثر من 700 سنة مازالت هذه الملحمة تعبيرا شعريا للفكر المسيحي، وخليطا حرا من الأساطير الكلاسيكية والأدب، والتاريخ. والنص الشعري ذاته مازال يعكس هذا التعايش المذهل بين الصرامة الفلسفية والتقنية الشعرية، تحسها حتى عبر الترجمة العربية الرائعة التي بدأها حسن عثمان في الخمسينيات، المُشبعة بالهوامش.

الموسيقي وورينين كثير الولع هو الآخر بمقاربة الموسيقى بالفكر والأدب، عمله هذا وضعه للباليه في أجزاء ثلاثة، الجزء الأول سماه «مهمة فيرجيل»، اقتصر العزف فيه على آلتي بيانو بالغتيْ الهيمنة في منح المناخ التعتيمي المطلوب، بدءا من أول الحكاية: هربُ دانتي من الحيوانات الكاسرة الثلاثة، في غمرة ضياعه في الغاب المظلم، قبل لقائه بشاعره اللاتيني الكبير فيرجيل، مرورا بحكاية «اللمبو»، مقر هؤلاء العظام الذين ماتوا قبل مجيء المسيحية، ثم الحكاية المركزية عن قبلة العاشقيْن فرانشيسكا وباولو، التي أدت إلى مقتلهما، وهي حكاية كم استُلهِمت في لوحات فنية، وفي أعمال موسيقية! وانتهاء بمواجهة إبليس: «قال أستاذي: إن ألوية ملك الجحيم تتقدم نحونا، فانظر إلى الأمام، إذا كنتَ تتبيّنه، كما إذا انتشر ضباب كثيف، أو حينما يخيّم الليل على نصف كرتنا، فتبدو على البعد طاحونة تديرها الرياح».

القسم الثاني من الثلاثية الموسيقية يتسع لستة عازفين منوعين بين البيانو، الوتريات والهوائيات. لكنه يقتصر من النص الشعري على الأنشودة التاسعة والعشرين من الفردوس الأرضي: «أنشودة الكنيسة الظافرة»، كما يُفضّل حسن عثمان العنوان، وعلى ما تلاها بقليل، هنا يبدو دانتي في آخر مراحله من المَطْهَر، حين يغتسل من كل ذلك، وحين يلتقي باتريشيا أخيرا، لتريه فمها فقط، وتأخذ بيده إلى الفردوس.

القسم الثالث «نهر الضوء»، يراه المؤلف «تأمليا في الهيئات الكونية التي رسمها دانتي، وفي جانبها الأرضي المتعيَّن في البراعة الشعرية، واستجابة روحية لها»، تشترك في هذا القسم الموسيقي ثلاث عشرة آلة، ولا يعتمد المؤلف على متابعة مشاهد وأحداث كما قلت، بل على تأمل متواصل ينتهي رائعا بانتهاء رحيل دانتي، حتى يصل مشارف إشباع الرغبة.

هذا العمل صدر عن دار (Naxos)، ولو أن واحدا من القراء دفعه الحماس إلى فتح موقع (Naxos) في الانترنت، ليجد هذا العمل بين الإصدارات المتأخرة، فهو حسبي. سيشترك في الموقع بمبلغ زهيد هو 11 دولارا سنويا، ليصغي بحرية إليه، وإلى آلاف الأعمال الموسيقية الأخرى، فغبطة لا عهد لي بها.

back to top