ما الذي غَيّرنا يا وطني؟!

نشر في 24-04-2008
آخر تحديث 24-04-2008 | 00:00
 حمد نايف العنزي

تغيّر أبناؤك كثيراً يا وطني من دون أن تدري، صاروا يصدّقون الكاذب ويكذّبون الصادق، يحترمون المنافق ويحقّرون الشريف، يتّخذون من الغشاش الانتهازي مثلاً أعلى، صاروا مصفقين مطبلين لكل ناعق، متزلفين متملقين لكل ذي مصلحة، يوسدون الأمر لغير أهله ويحاربون الكفء، يخوّنون الأمين ويأتمنون الخائن!

في شهور الغزو المظلمة عرفنا كم تعني لنا كلمة «وطن»، أدركنا أن مكانها في حشاشة القلوب، تنبهنا أنها أهم كلمة في حياتنا، عرفنا أنك يا وطني تعني لنا كل شيء، فأنت الأب والأخ والابن، بل أنت خير وأحب منهم جميعاً، فأنت البيت الكبير الذي ضمنا، وأنت الماضي الجميل الذي عشناه والمستقبل الزاهر الذي نتمناه، وعلمنا أننا قد خسرنا كل شيء حين خسرناك!

في شهور الغزو، كنت يا وطني الأول دائما في كل شيء، في قلوبنا وعقولنا، في حديثنا وصمتنا، في صحونا ومنامنا، في خيالنا وأحلامنا، في ابتساماتنا ودموعنا، في قهرنا وحسراتنا التي لا عد لها، سبعة شهور اشتقنا فيها أيما اشتياق لترابك المكبل بأغلال الغدر، سبعة شهور انتظرنا، والمرارة تعصرنا، بزوغ فجر الحرية وانكسار القيود، كم تمنينا وكم حلمنا أن نعود إليك وأن تعود إلينا، حتى لو تركوك أرضاً محروقة، حتى لو جعلوك حطاماً وأطلالاً، حتى لو لوثوا سماءك بسحائب حقدهم السوداء، لا يهم، فأنت وطني الجميل حتى لو شوّهوا ملامحك، حتى لو صبغوك بألوانهم القاتمة المظلمة، ستبقى ذلك الوطن الحبيب الغالي، نعم، فليس هناك أغلى من الوطن، لا الأبناء، ولا الإخوان، ولا المال، ولا العشيرة، فكلهم يموتون فداءك... وتبقى أنت يا وطن!

ومرت الأيام متثاقلة بطيئة تقتل صبرنا، وتقتات على قهرنا، وتشرب من دموعنا، حتى جاءت البشرى بهزيمة الغزاة واندحارهم، فعدت إلينا يا وطن وعدنا إليك، ولامست أقدامنا ترابك الطاهر بفرح غامر، وعانقناك بكل الشوق والحب يا وطني، فعادت الحياة إلى وجوهنا التي كستها الأحزان واللوعات شهوراً، بابتسامة حب خالد لك في ضمائرنا، وغدا كل شيء جميل في لحظات حين احتضنّاك يا وطني، وكالسحر شفي مرضانا من سقمهم، وابتسم شهداؤنا في جنانهم، وضحك أسرانا في أسرهم، وتبسمت التجاعيد في وجوه الشيوخ والعجائز، ورقص الأطفال والشباب طرباً، وغنّى «أبو خالد» بكل الإحساس والروعة «وطن النهار» و«حبيبي الوطن» ولم يغنّ وحده، فقلوبنا غنّت معه، وبكت معه، وتساقطت دموع الفرح من الأفئدة قبل العيون!

فاضت مشاعرنا حينها في حبك، وأردنا جميعاً أن نمسح دموعك يا وطني، تخيلناك لوحة سنرسمها من جديد، بأجمل الألوان المشرقة الزاهية الرائعة، وقلنا إننا سنصنع منك أجمل بلد في الدنيا، كنا مستعدين لعمل أي شيء من أجل أن ترضى عنا، أردنا أن نمسح أقذار الغزاة عن جسدك، أن نعيد بناءك لبنة لبنة، أن نجعلك جديداً في كل شيء، فحبنا لك قد وصل أقصى درجات الحب!

واستعدت عافيتك يا وطني، ثم مضت السنون تتبعها السنين، وتغيرنا كثيراً كثيراً ونسينا، طبيعة البشر يا وطني النسيان، نسينا وعودنا كلها التي وعدناك بها، فلست أجمل بلد في الدنيا ولا تحلم حتى بذلك، ولم تعد لا أنت ولا ترابك تمثل الكثير من اهتماماتنا، ولم تعد تتربع على عرش قلوبنا، فقد زاحمتك أهواؤنا وأطماعنا ورغباتنا وجشعنا، حتى أقصتك الى أبرد زوايا القلب، هناك تقبع اليوم يا وطني وحيداً متجمداً، يا لك من مسكين يا وطني، أو تظن أنك مازلت الوطن؟!

لا يا وطن، لست وحدك الوطن، فالقبيلة صارت وطناً، والطائفة صارت وطناً، والمصلحة صارت وطناً، والدينار والمنصب وفلان وعلان، صاروا كلهم أوطاناً داخلك يا وطني، ألا تدري يا وطني أنك أصبحت بلد العجائب والغرائب؟!

بلى لقد أصبحت كذلك، فقد تغير أبناؤك كثيراً من دون أن تدري، صاروا يصدّقون الكاذب ويكذّبون الصادق، يحترمون المنافق ويحقّرون الشريف، يتّخذون من الغشاش الانتهازي مثلاً أعلى، صاروا مصفقين مطبّلين لكل ناعق، متزلفين متملقين لكل ذي مصلحة، يوسّدون الأمر لغير أهله ويحاربون الكفء، يخوّنون الأمين ويأتمنون الخائن!

تغير أبناؤك كثيراً يا وطني، كما تغيرت أنت، فقد أصبحت بلد الشعارات يا وطني، الشعارات الكاذبة الجوفاء، صار الجميع يتحدث عن بنائك وتنميتك ومستقبلك، ثم يستلون خناجرهم في الخفاء ليطعنوك في الخاصرة، كثرت طعانك يا وطني، وتفرقت أناتك وآهاتك بين القبائل والطوائف والمصالح، وقُيّدت الحوادث كلها ضد مجهول!

آه وألف آه يا وطني، لو تقول لي فقط، ما الذي غيرنا هكذا؟!

back to top