الإسلام الإصلاحي

نشر في 29-07-2007
آخر تحديث 29-07-2007 | 00:00
 د. حسن حنفي «الإسلام الإصلاحي» أحد تعبيرات اليسار الإسلامي، فهو لا يدين ولا يكفّر ولا يستبعد أي تفسير آخر، تعلما من تجارب الأنبياء السابقين. فقد دعا نوح على قومه بالهلاك، (وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا. إنك إن تذرهم يضلوا عبادك. ولا يلدوا إلا كافرا فجارا). وغضب موسى من قومه ومن أخيه هارون الذي خلفه وصعد إلى جبل الطور يعبد ربه، وترك قومه في التيه، (ولما رجع موسى إلى قومه غضبانا أسفا قال: بئس ما خلفتموني من بعدي. أعجلتم أمر ربكم. وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه. قال ابن أم: إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني. فلا تشمت بي الأعداء. ولا تجعلني مع القوم الظالمين). وأعلن عيسى الحقيقة كلها فلم يتحمله قومه ووشوا به وتخلصوا منه ثم عبده أنصاره. فبناء النفوس أصعب من بناء الدول (فلما أحس عيسى منهم الكفر)، (وقولهم إنا قتلنا المسيح بن مريم رسول الله)، (ولعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم).

الإسلام حركة إصلاحية ضد الإفساد في الأرض، تغير ما هو موجود وليس تدميره أو إقصاءه أو الخروج عليه بالعنف المسلح أو الانعزال عنه إلى الكهوف والصحراء، في الأديرة والزوايا والخانقاه. تعامل مع كل ما كان موجوداً من أديان سابقة عليه. ارتبط بالحنفاء، دين إبراهيم، وقد كانوا معظَّمين عند العرب. وتعامل مع اليهودية والنصرانية، مؤكداً أن القرآن مصدق لما جاء في التوراة والإنجيل والزبور دون حرفية القانون والعصيان، وادعاء الاختيار في اليهودية، وضد التحريف وسوء فهم العقائد والوقوع في الاشتباه في النصرانية، وكلاهما «أهل ذمة» أي في ذمة المسلمين. يعيشون معهم ويشاركونهم الطعام والشراب والزواج. (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم، ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا. ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله). وارتبط بالصابئة مغيراً عبادة الكواكب إلى استعمالها لمعرفة المواقيت والحساب. (ويسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج). وارتبط بالمجوس، مغيّراً عبادة النار إلى توظيفها في الدفء والوقود. (أفرأيتم النار التي تورون. أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون) حتى ينتزع استغلالها ويقضي على ألوهيتها. فالنار مصنوعة وليست صانعة (الذي جعل لكم من الشجر الأخضر ناراً فإذا أنتم منه توقدون). النار للدفء (لعلي أتيكم منها بخبر أو جذوة من النار لعلكم تصطلون)، وللصناعة (ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية). والكل يكوّنون الأمة الإسلامية المتعددة الديانات والطوائف والملل والنحل. وكما حدث بالفعل في «ميثاق أهل المدينة» أول دستور تعددي في التاريخ.

كما آخى الإسلام بين الأوس والخزرج، ولم يدمرهما ويأتي بقبائل جديدة. كما آخى بين المهاجرين والأنصار ولم يغلّب فريقا على فريق. وأيد حلف الفضول قبل الإسلام أي نصرة المظلوم ضد الظالم. وتواصل مع الجاهلية بعد تنظيف الكعبة من الأصنام. «خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام».

وغيّر الواقع تدريجياً دون هدمه وإعادة بنائه من جديد. حرم الخمر تدريجياً، لما فيها من إثم ومنافع، ولعدم التركيز في الصلاة ثم عدم الاقتراب منها لأنها رجس دون لفظ التحريم. وغير وضع المرأة مما لا مساومة فيه، وهو حق الحياة (وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت) إلى وضع سقف لتعدد الزوجات وفي حالات استثنائية وبشرط مستحيل التحقق، وهو العدل (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم). ولم تكن لها شهادة فأصبحت نصف شاهدة. ولم يكن لها نصيب في الميراث فأصبحت نصف وارثة. ولم يكن لها حقوق في الطلاق فأصبح لها النفقة ومؤخر الصداق. وكانت لا تخرج من الخيمة فتصدرت الحياة العامة في العلم والقضاء، والسلم والحرب. هذا التغير التدريجي بنص الوحي في «الناسخ والمنسوخ» كلما تغير الواقع تغير الحكم طبقاً لدرجة تقدمه. ودور الفقيه الآن هو الاستمرار في روح الإسلام نحو المساواة بين المرأة والرجل من النصف إلى الواحد الصحيح.

الإسلام الإصلاحي ضد الحاكمية بالمعنى السلفي، أي تكفير المجتمع ونظمه القائمة الليبرالية والقومية والإسلامية النصية، بل تبدأ من واقع هذه النظم وتجعلها أقرب إلى النظام الإسلامي، تحول سلمياً من الواقع إلى المثال. وهو المنهج الإسلامي في البداية بالطبيعة والاتجاه بها نحو الكمال. لذلك أعجب المسلمون بأرسطو. فالطبيعة تتجه نحو الكمال.

لذلك كثر استعمال لفظ «الإصلاح» في مقابل «الإفساد» في القرآن. النبوة إصلاح، والنبي مصلح واسم النبي صالح (إن أريد الإصلاح ما استطعت). والإصلاح هو سبب البقاء في الأرض (وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون). والنجاة في السماء (جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم). وشرط التوبة الإصلاح والتغير بعدها (فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه). وهو فعل حر لا يتدخل الله فيه (إن الله لا يصلح عمل المفسدين) ودون احتجاج بالقضاء والقدر. والإصلاح ضد الإفساد (ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها). ومعيار التمييز بين الناس هو الإصلاح والإفساد، (والله يعلم المفسد من المصلح). والإصلاح والإفساد في الأرض وبين الناس (الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون). والعمل هو العمل الصالح. والإيمان مقرون به.

لذلك أعجب المسلمون بحركة الإصلاح الديني الحديثة عند الأفغاني ومحمد عبده وقاسم أمين والكواكبي وعبد الحميد بن باديس. بل إن التيارات الفكرية والسياسية كلها، الليبرالية والعلمية، بل والعلمانية، تيارات إصلاحية بالمعنى الواسع أي تغيير الوضع القائم لما هو أفضل. وهو المعنى الأصلي لليسار، تغيير الوضع الراهن لما هو أفضل وليس تثبيته كما يريد اليمين المستفيد منه. وقد نشأ التباين في مناهج الإصلاح بين الإصلاح الثوري السياسي، بل والانقلابي عند الأفغاني، والإصلاح التربوي الأخلاقي التدريجي عند محمد عبده بعد فشل الثورة العرابية. وسعد زغلول قائد ثورة 1919 في مصر تلميذ الأفغاني. ويتوق الجيل الحالي من المصلحين الانتقال من الإصلاح الديني إلى النهضة الشاملة. فلا نهضة بدون إصلاح.

ليس الإصلاح والنهضة وقفا على الغرب. فقد عُرف الغرب بهما، بالإصلاح الديني عند لوثر في القرن الخامس عشر، وبالنهضة عند جيوردانو برونو في القرن السادس عشر. وأعجب المصلحون الإسلاميون بمارتن لوثر. فقد سُمي الأفغاني «لوثر الشرق». وقد درس لوثر الإسلام لمعرفة كيف وصل إلى الإصلاح. وجعل اسبينوزا الإسلام نموذجاً لإصلاح المعبد اليهودي. تلك بضاعتنا رُدت إلينا. المهم الآن كيفية تطوير الإصلاح وتحويله من الخطابة إلى العلم، ومن الوعظ إلى التحليل، ومن الوجدان إلى العقل، ومن الدفاع إلى النقد حتى لا يكبو من جديد أو تتعثر نهضته إلى سقوط أو تنقلب ثورة إلى ثورة مضادة حتى تتعلم الأمة من دروس التاريخ.

 

كاتب ومفكّر مصري

back to top