تركيا وخطر العلمانية الأصولية

نشر في 23-03-2008
آخر تحديث 23-03-2008 | 00:00
إن مصدر الانزعاج الحقيقي بين دوائر العلمانية الديموقراطية في تركيا يتلخص في التخوف من أن تكون الجهود، التي يبذلها حزب العدالة والتنمية في سبيل إصلاح الدستور بمنزلة خطوة أولى نحو تطبيق الشريعة الإسلامية.
 بروجيكت سنديكيت أصدر رئيس هيئة الادعاء لدى محكمة الاستئناف العليا في تركيا أخيراً توصياته إلى المحكمة الدستورية العليا في البلاد بفرض حظر دائم على حزب العدالة والتنمية الحاكم. كان حزب العدالة والتنمية في شهر يوليو الماضي قد حقق نصراً ساحقاً في انتخابات حرة نزيهة ليستمر في تولي زمام الحكومة في البلاد فترة ولاية ثانية. وكان رئيس الادعاء قد أوصى في وقت سابق بحرمان رئيس الوزراء رجب أردوغان ورئيس الجمهورية عبدالله غول وتسعة وستين مسؤولاً سياسياً بارزاً من ممارسة السياسة خمس سنوات.

من الواضح أن فرض الحظر على حزب العدالة والتنمية قد يؤدي إلى أزمة سياسية من شأنها أن تدمر الجهود التركية الساعية إلى الالتحاق بعضوية الاتحاد الأوروبي في المستقبل المنظور. وبطبيعة الحال لابد أن تهدد أزمة كهذه النمو الاقتصادي القوي الذي تشهده تركيا في الآونة الأخيرة. وعلى هذا فلا ينبغي لنا أن نستخف بتهديد رئيس الادعاء خصوصا انه قد سبق للمحكمة الدستورية أن أصدرت قرارات بحظر 18 حزباً سياسياً (بما فيها سلف حزب العدالة والتنمية) منذ العمل بالدستور الحالي في عام 1982. وترتبط التوصية الأخيرة بحظر حزب العدالة والتنمية ارتباطاً مباشراً بالجهود التي يبذلها الحزب سعياً إلى تغيير الدستور التركي.

يتلخص الاتهام الأساسي في توصية رئيس الادعاء في أن حزب العدالة والتنمية كان سبباً في تآكل العلمانية في البلاد. ولكن ربما كانت أصول الدستور الحالي وتعريفه للعلمانية من بين الأسباب الرئيسية التي أدت إلى هذا الوضع.

بدأ العمل بالدستور التركي الحالي في عام 1982 كنتاج مباشر للانقلاب العسكري الذي شهدته البلاد في عام 1980. ولقد تولى الجنرالات الخمسة الذين قادوا الانقلاب تعيين كل الأعضاء المئة والستين في الجمعية الاستشارية التي تولت إعداد مسودة الدستور الجديد، واحتفظوا بحقهم في نقض الوثيقة النهائية. وبواسطة الاستفتاء العام للتصديق على الدستور، سُمِح للمواطنين بالتصويت ضد الدستور التمهيدي الذي تم إعداده تحت رعاية المؤسسة العسكرية، ولكنهم مُنِعوا من مناقشة هذا الأمر علناً.

ونتيجة لهذا خرج دستور 1982 إلى الوجود استناداً إلى أصول ديموقراطية أضعف من نظيراتها في أي من بلدان الاتحاد الأوروبي. كما كان مضمونه الديموقراطي أضعف كثيراً، إذ أسند على سبيل المثال سلطات هائلة لمجلس الأمن القومي (ومنحه أغلبية عسكرية). ورغم محاولات حزب العدالة والتنمية لتخفيف هذا المظهر الاستبدادي، فإن إضفاء الصبغة الديموقراطية على مثل هذا الدستور ليس بالمهمة اليسيرة على الإطلاق. ولقد أكدت التقارير الرسمية الصادرة عن الاتحاد الأوروبي بشأن توقعات انضمام تركيا في أكثر من مناسبة ضرورة السعي إلى تبني دستور جديد بالكامل، وليس الاكتفاء بتعديل الدستور الحالي.

بعد أن أشارت استطلاعات الرأي العام إلى أن الدستور المقترح الذي يعكف حزب العدالة والتنمية على إعداده بواسطة لجنة من الخبراء الأكاديميين قد يحظى بالقبول عند طرحه وفقاً للعملية الديموقراطية المعتادة، سارع رئيس الادعاء إلى العمل من أجل دعم ذلك النوع من العلمانية الذي أقره دستور 1982، والذي شبهه العديد من المعلقين بالعلمانية الفرنسية. إلا أنه من قبيل التضليل أن نشبه العلمانية التركية بما يعتبره الفرنسيون نظاماً علمانياً.

مما لا شك فيه أن العلمانية الفرنسية والعلمانية التركية (التي قامت على يد مؤسس تركيا الحديثة كمال أتاتورك) اشتركتا في خلفية تاريخية متشابهة فيما يتصل بتوجهاتهما في التعامل مع الدين. إلا أن الأمر اختلف كثيراً الآن. ففي تركيا يخضع الشكل الوحيد من أشكال التعليم الديني المسموح به لسيطرة الدولة، بينما تسمح فرنسا بمجموعة متنوعة واسعة من التعليم الديني، ومنذ عام 1959 تتحمل الدولة الفرنسية قسماً كبيراً من تكاليف التعليم الابتدائي التابع للكنيسة الكاثوليكية، أما في تركيا فتتولى مديرية الشؤون الدينية التابعة للدولة، والتي يبلغ عدد العاملين فيها سبعين ألف موظف مدني كتابة خطب صلاة الجمعة، وكل أئمة المساجد في تركيا لابد أن يكونوا من الموظفين المدنيين. وبالطبع، لا وجود لمثل هذه القيود والضوابط في فرنسا.

على نحو مماثل، كان من شبه المستحيل في تركيا إقامة كنيسة جديدة أو معبد يهودي جديد، أو إنشاء مؤسسة يهودية أو مسيحية، حتى تولى حزب العدالة والتنمية السلطة وبدأ في تخفيف القيود. وربما كان هذا هو السبب الذي دعا البطريرك الأرميني إلى حث الأقلية الأرمينية في تركيا على التصويت لصالح حزب العدالة والتنمية في انتخابات يوليو الأخيرة. وهنا أيضاً لن نجد لمثل هذه القيود مثيلاً في فرنسا.

ربما كان بوسعنا أن نخضع الفوارق بين العلمانية الفرنسية والعلمانية التركية لمقارنة أكثر وضوحاً، فطبقاً لمؤشر «فوكس» الشهير لقياس مدى سيطرة الدولة على أديان الأقلية والأغلبية، إذ يمثل الصفر أقل قدر من سيطرة الدولة، وحيث تعني الثلاثين وما بعدها أشد درجات السيطرة من جانب الدولة، حصلت كل بلدان الاتحاد الأوروبي، باستثناء بلدين، على درجات تتراوح ما بين الصفر إلى الـ6 درجات. وسجلت فرنسا 6 درجات على هذا المؤشر، أما تركيا فقد سجلت 24 درجة، وهو مستوى أسوأ كثيراً حتى من المستوى الذي سجله النظام العلماني الاستبدادي في تونس.

هل يستحق هذا النمط من العلمانية أن يُـخَلَّد في الدستور الذي تمخض عنه الانقلاب العسكري، والذي يدافع عنه رئيس الادعاء؟

إن مصدر الانزعاج الحقيقي بين دوائر العلمانية الديموقراطية في تركيا يتلخص في التخوف من أن تكون الجهود التي يبذلها حزب العدالة والتنمية في سبيل إصلاح الدستور بمنزلة خطوة أولى نحو تطبيق الشريعة الإسلامية. وإذا لم تبادر المحكمة الدستورية إلى التصدي لحزب العدالة والتنمية لمنعه من فرض الشريعة الإسلامية، فمن يا تُرى قد يفعل ذلك؟

نستطيع أن نرد على هذا بثلاث إجابات: أولاً، يؤكد حزب العدالة والتنمية بإصرار أنه يعارض إقامة دولة تحكمها الشريعة الإسلامية، ويقول الخبراء إن الاتهامات التي وجهها رئيس الادعاء لا تقوم على أي دليل يشير إلى أن حزب العدالة والتنمية قد تحرك نحو تحقيق مثل هذه الغاية. السبب الثاني أن حكم الشريعة لم يحظ قط بنسبة مرتفعة من التأييد في تركيا، بل ان هذه النسبة قد انحدرت منذ تولى حزب العدالة والتنمية السلطة من %19 في عام 1996 إلى %8 في عام 2007.

وإذا ما علمنا أن الأساس الحقيقي الذي يستند إليه حزب العدالة والتنمية في تعزيز سلطته يتلخص في الانتخابات الديموقراطية، فهذا يعني أن أي محاولة لفرض حكم الشريعة من جانبه يعني المجازفة بخسارة العديد من مؤيديه بين الناخبين. ونظراً إلى كل هذه القرائن فليس هناك من الأسباب ما يدعو أي شخص، باستثناء «العلمانيين الأصوليين»، إلى دعم اقتراح حظر حزب العدالة والتنمية، أو أردوغان، أو غول. بل إن كل الأسباب تدعو تركيا إلى الاستمرار على مسارها الديموقراطي الحالي، فهو المسار الوحيد الذي قد يمكن تركيا من تبني دستور أفضل من دستورها الحالي.

* ألفريد ستيبان ، أستاذ العلوم الحكومية ومدير مركز الديموقراطية والتسامح والأديان بجامعة كولومبيا.

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top