اللوبي الصهيوني في واشنطن... معطى أم نتيجة؟

نشر في 27-09-2007
آخر تحديث 27-09-2007 | 00:00
 د. مصطفى اللباد

متى كانت الإمبراطوريات العالمية جمعيات خيرية أو مدافعة متطوعة عن قيم الحق والخير والجمال؟ يبدو أننا نحتاج في موضوع اللوبي الصهيوني في واشنطن إلى تحليل الظواهر السياسية على أساس التفرقة بين ما هو معطى وما هو نتيجة.

يشغل اللوبي الصهيوني في أميركا مخيلتنا -نحن العرب- منذ أكثر من نصف قرن، حتى يندر أن تجد حواراً سياسياً بين مواطنين عرب، في أي بقعة جغرافية من المحيط إلى الخليج، يخلو من مسألة اللوبي الصهيوني، والشاهد أنه بمرور الزمن وتراكم الخسائر، فقد بدا أن مسألة «اللوبي الصهيوني» هي الشماعة الأكثر استعمالاً لنعلق عليها إحباطنا، وعن طريقها نفسر واقعنا السياسي المتردي، تبدو المعادلة حسابية بسيطة: بما أن «اللوبي الصهيوني» نافذ في واشنطن، ستظل إسرائيل متفوقة على العرب مهما حاولوا أن يفعلوا، لأن القطب العالمي الأوحد أميركا سينزل، دائماً وفي كل الظروف وتحت أي شروط –هكذا ببساطة- بكامل ثقله ضدهم. وانطلاقاً من هذه المعادلة التأسيسية في المساجلات السياسية العربية، يعتقد من يرمي مناظريه بهذا المنطق، أنه ألقمهم حجراً بحيث صار مثل جهيزة، يقطع بهذه المعادلة قول كل خطيب.

تجلس في صالة الانتظار في أحد المطارات العربية انتظاراً لموعد إقلاع طائرتك، فيخترق أذنيك صوتٌ عربي مفعم بالثقة يقول لجاره الذي تعرف عليه قبل خمس دقائق فقط: إسرائيل متفوقة تكنولوجياً وعسكرياً وعلمياً بسبب مؤامرات اللوبي الصهيوني المتوالية علينا، وهذه المؤامرات هي علة تراجع دورنا العالمي والإقليمي، تسارع بالابتعاد حتى لا تقضي عليك المفاجأة عندما تسمع الطرف الأخر؛ وهو يفسر الظواهر الكونية من ظاهرة الاحتباس الحراري وصولاً إلى التصحر والجرف القاري بنفس الأسباب. هكذا بكل بساطة نغسل أيدينا من القضايا برمتها، فالمسألة واضحة والنتيجة معروفة، فنستسلم استسلاماً لذيذاً لفرضية طاغية من دون أن نشرع في مناقشتها جدياً. اللوبي الصهيوني نافذ في واشنطن، والمؤامرات هي جزء من التخطيط في الصراعات وكل طرف يكاسر إرادات الطرف الآخر بالتخطيط، ولست هنا بصدد نفي وجودهما. ولكن التسليم بأن قوى صغيرة العدد تستطيع من وراء الستار العبث بأقدار الإمبراطوريات الكبرى لدرجة أن تسيرها ضد مصالحها، تبدو مسألة على قدر كبير من التسطيح، ويفيد هذا القول أكثر ما يفيد اللوبي الصهيوني مباشرة، لأنه يظهره كقوة لا تقهر أمام مجموعات الضغط المختلفة في الولايات المتحدة الأميركية ويعيد إنتاج نفوذه في مواجهتها.

خاضت الولايات المتحدة الأميركية الحرب العالمية الثانية إلى جانب بريطانيا وقدمت الآلاف من الضحايا، وتحملت مئات المليارات من الدولارات من مجهود حربي إلى مشروع «مارشال» لإعادة إعمار أوروبا بعد الحرب، ولكن هل يمكن إرجاع دخول أميركا الحرب فقط إلى نفوذ ونستون تشرشل رئيس الوزراء البريطاني وقتها على الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت؟ تخبرنا المصادر التاريخية أن تشرشل قام بمجهود جبار أمام وسائل الإعلام ومن خلف الستار لحث الأميركيين على الانضمام الى الحرب، باستخدام مقولتين: الأولى أن بريطانيا وأميركا تتشاركان في منظومة قيم واحدة، والثانية أن النخبة الحاكمة في كل من لندن وواشنطن تنتميان إلى أصل أنجلو-ساكسوني بروتستانتي واحد، وبالتالي على واشنطن حماية الديموقراطية البريطانية من النازية الألمانية، ولكن النظرة الأعمق للأمور تكشف أن واشنطن دخلت الحرب وتحملت تلك التكاليف والضحايا بغرض حماية مصالحها هي وليس مصالح لندن، فتقاعس واشنطن عن الدخول إلى الحرب كان معناه أن برلين ستكتسح الدفاعات البريطانية وتسيطر على أوروبا، ولو تم ذلك، لاستطاعت برلين حصار واشنطن بحرياً ومنع تواصلها مع أوروبا وحجمت طموحاتها الدولية ومنعتها من الظهور كقوة عالمية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية.

استجابت واشنطن لنداءات تشرشل على قاعدة مصالحها هي، في حين دفع الاتفاق في المصالح بين واشنطن ولندن إلى التنسيق الكبير بين البلدين من وقتها حتى اليوم، مع الفارق أن بريطانيا قبل الحرب كانت قوة عظمى وأميركا غير ذلك، ومع انتهاء الحرب كانت لندن وواشنطن قد تبادلتا المواقع، وعلى نفس المنوال يصعب إرجاع الإخفاقات العربية أمام إسرائيل إلى حماية واشنطن لها فقط، إذ إن التسلسل التاريخي لبداية الصراع العربي–الإسرائيلي يظهر أن أميركا والاتحاد السوفييتي السابق تشاركا في الاعتراف بالدولة العبرية لحظة قيامها. كما أن موسكو هي التي زودتها –عبر تشيكوسلوفاكيا- بالسلاح في مواجهة العرب، لأنها اعتقدت في البداية أن المستوطنات الصهيونية تمثل «طابعاً اشتراكياً» في منطقة تسود فيها القيم الإقطاعية.

ولما أممت مصر بقيادة الزعيم الراحل جمال عبدالناصر قناة السويس، تشاركت بريطانيا وفرنسا والدولة العبرية في «العدوان الثلاثي» ضد القاهرة في حين وقفت كل من موسكو وواشنطن ضده وأفلحا في إجبار إسرائيل على الانسحاب من سيناء، ساعتها ظهرت فرنسا راعياً لإسرائيل؛ فشيدت قواتها الجوية والبنية التحتية لبرنامجها النووي ونواته مفاعل «ديمونه». بالتوازي مع ذلك كان التوجه العربي العارم نحو الاتحاد السوفييتي الذي ناصر محوراً ضم مصر وسورية والعراق، في مقابل بناء قوة جوية إسرائيلية هائلة، وصولاً في النهاية إلى الهزيمة الكارثية للعرب في عام 1967.

قطعت فرنسا –للمفارقة- علاقاتها مع إسرائيل بعد الحرب لأن الجنرال ديغول طلب من إسرائيل مراراً عدم القيام بالضربة الأولى، ولكنها لم تستجب له، فاتجهت إسرائيل غير القادرة على الحياة من دون راع دولي إلى واشنطن. والأخيرة رأت في تل أبيب حليفاً موثوقاً في صراعها الدولي ضد موسكو وحلفائها في المنطقة، ولذلك لم يكن اللوبي الصهيوني هو الدافع لانخراط واشنطن في قضايا الشرق الأوسط، بل مصالح أميركا أولاً وثانياً وثالثاً. قد يبدو اللوبي الصهيوني قادراً على التأثير في واشنطن –وهذا صحيح إلى حد كبير- ولكنه يبقى مشروطاً بمصالح الأخيرة، بمعنى آخر أن إسرائيل نجحت في جر واشنطن إلى دعمها باعتبارها مصلحة وطنية أميركية، فانحازت السياسة الأميركية إلى تل أبيب، باعتبارها الأقدر على ضمان مصالح واشنطن في المنطقة وليس بسبب تأثير «اللوبي الصهيوني»، الذي يبدو نافذاً فقط في القضايا التي تريد واشنطن الانخراط فيها بفعل مصالحها.

لا يعفي ذلك التحليل السياسة الأميركية من أخطاء تاريخية فادحة في المنطقة، ولا من استخدام الشعارات السياسية البراقة لتحقيق مآرب نفعية، ولكن متى كانت الإمبراطوريات العالمية جمعيات خيرية أو مدافعة متطوعة عن قيم الحق والخير والجمال؟، يبدو أننا نحتاج في موضوع اللوبي الصهيوني في واشنطن إلى تحليل الظواهر السياسية على أساس التفرقة بين ما هو معطى وما هو نتيجة، وفي تطبيق ذلك على الموضوع يبدو التحالف الأميركي-الإسرائيلي في أحيان كثيرة نتيجة لسببين أساسيين هما: أولاً، نجاحات تل أبيب في قراءة المؤشرات الدولية وضبط حركتها على قياس مصالح رعاتها الدوليين، وثانياً، فشلنا المدوي في ذلك، وليس باعتبار التحالف المذكور معطى أبدي سرمدي غير قابل للتغير والتبدل على مرور الأزمان والعصور.

* كاتب وباحث مصري

back to top