السيرة الذاتية لطائر الصحراء(1)

نشر في 31-10-2007 | 00:00
آخر تحديث 31-10-2007 | 00:00
No Image Caption
بطالة الغُزاة في أواخر الستينات الميلادية من القرن المنصرم تركت المدرسة المتوسطة وأنا أتأبط بدلاً من الكتب المدرسية روائع الأدب العالمي مثل «البؤساء» لفيكتور هوغو، و«دكتور زيفاكو» لباسترناك و«المعطف» لغوغول وروايات شارلوت برونتي «مرتفعات ويذرنج» و«ذهب مع الريح» و«الدون الهادئ، ثم «بين القصرين» و«خمارة القط الأسود» لنجيب محفوظ وجميع أعمال محمد عبدالحليم عبدالله الذي لا...
بطالة الغُزاة

في أواخر الستينات الميلادية من القرن المنصرم تركت المدرسة المتوسطة وأنا أتأبط بدلاً من الكتب المدرسية روائع الأدب العالمي مثل «البؤساء» لفيكتور هوغو، و«دكتور زيفاكو» لباسترناك و«المعطف» لغوغول وروايات شارلوت برونتي «مرتفعات ويذرنج» و«ذهب مع الريح» و«الدون الهادئ، ثم «بين القصرين» و«خمارة القط الأسود» لنجيب محفوظ وجميع أعمال محمد عبدالحليم عبدالله الذي لا أعرف اليوم كيف توارى عن المشهد الروائي وكان بالنسبة إلى جيلي أهم من نجيب محفوظ وإحسان عبدالقدوس ويوسف السباعي، لكنه بالطبع ليس أهم من يوسف إدريس الذي كنا نراه روائياً تقدمياً وأكثر «شبابية» من الآخرين. أقول حينما تأبطت تلك الكتب وهي الحصيلة التي خرجت بها من «العلام» كله ـ على ما يقول إخواننا المصريون ـ قبعت في ديوانية عمي «سعين بن باطح العنزي» المشهور بـ «أبي المزنوك» في عشيش «الشدادية» وتفرغت لـ «صب القهوة» لـ«الشيّاب» الذين يفدون إليه يومياً من مختلف القبائل والذين كان يدور جل حديثهم عن الغزوات القبلية و«الحنشلات» والصعلكة التي كانوا يمارسونها ضد بعضهم البعض قبل استتباب الأمن في المنطقة وصدور قوانين منع الغزو في بداية الثلاثينات من القرن الماضي. وأصبح الغزاة الآن يمارسون البطالة واجترار الماضي، التعيس بالنسبة إلينا، السعيد بالنسبة إليهم، والذي أصبح مجرد ذكريات يفخرون بها ويتندرون على بعضهم حينما ألقوا رماحهم وسيوفهم وسلموا بنادقهم إلى السلطات. كنت أصغي أحياناً بشغف حين تحتدّ بينهم المناقشة حول من أوقع صاحبه عن الفرس أو «الذلول» بطعنة نجلاء غير قاتلة، وكيف منعه «أسره» ووفر له الأمان في ساحة الوغى رغم أنه من الأعداء. وكنت أتعجب كيف يكشف أحدهم للحاضرين عن طعنه صاحبه الذي يقابله الآن في المجلس ويحتسون القهوة معاً بكل أمن وأمان ويضحكون من سخريات القدر في ذلك الزمن، ذاك الزمان الذي جعلهم أحبة وأصدقاء لهم ذكريات حميمة مشتركة. لذا تجد في ديوانية «أبي المزنوك»: الفارس الظفيري، والفارس الشمري، والفارس المطيري. بالطبع كلهم الآن فرسان أو «قتلة» متقاعدون، بل لصوص عتاة يمارسون الحنشلة و«السطو» على إبل بعضهم بعضاً في السابق ويعتبرون ذلك ضرباً من البطولة مثلما كان يفعل أسلافهم الجاهليون. واليوم إذ أستعيد وجوههم المتجهمة وجباههم العالية ولحاهم الجليلة الشمطاء أحس بقصور فادح لأنني عرفت أهميتهم فيما بعد.

back to top