الملف الإيراني بين الثقة والكرامة
الإيرانيون يرغبون في تحقيق برامجهم المحلية والإقليمية والدولية، ولن يتنازلوا في مسألة تتعلق بالكرامة والعزة، ما لم يكن هنالك مردود جيد، وإلاّ فالأضمن استمرار المشروع النووي قائماً وتطويره ليبقى مفيداً في الأيام والسنوات القادمة، والأميركيون يريدون تقليص الدور الإيراني نفسه، وصولاً -ربما- إلى تحسين إمكانات تغيير النظام.لم تترك الحكومة الإيرانية مسؤول ملفها النووي مرتاحاً على رأس عمله، ولم تترك الولايات المتحدة المجموعة الأوروبية والبرادعي مرتاحين في مجرى عملية التفاوض، ولم تجرؤ الدول العربية على التدخل في الموضوع، حتى جاء الاقتراح الخليجي الأخير بحلّ وسط في نسخة قريبة من الحل الروسي الذي طرح إمكان التخصيب بشكل مشترك في أراضي روسيا. ينطلق الموقف الإيراني والأميركي من الهوى والهواية السياسيين، والرغبة في إدماج المسائل ببعضها، فالإيرانيون يرغبون في تحقيق برامجهم المحلية والإقليمية والدولية، ولن يتنازلوا في مسألة تتعلق بالكرامة والعزة، ما لم يكن هنالك مردود جيد، وإلاّ فالأضمن استمرار المشروع النووي قائماً وتطويره ليبقى مفيداً في الأيام والسنوات القادمة، والأميركيون يريدون تقليص الدور الإيراني نفسه، وصولاً -ربما- إلى تحسين إمكانات تغيير النظام. والعرب قلقون عموماً -من دون همّة مرافقة- من قوة جارتهم وتزايد دورها الذي يهدد أمنهم سياسياً واجتماعياً وعقائدياً. بعضهم، على العكس من ذلك، يفرح بطبول الحرب، ويتنفس الصعداء سراً أو علناً. المشكلة في إحدى جهتيها أن لإيران حقّها، مثل غيرها من الأمم، في أن تستفيد من التكنولوجيا الحديثة وتستخدم الطاقة النووية للأغراض السلمية، وهي من الدول الموقعة على اتفاقية الحد من انتشار الأسلحة النووية، بل من حقها حسب الاتفاقية نفسها أن تقوم بتخصيب اليورانيوم تحت إشراف ومراقبة الوكالة الدولية للطاقة الذرية. والمشكلة في الجهة الأخرى هي في «انعدام الثقة» الأميركية والغربية والدولية، المبنية رسمياً على تطوير إيران نشاطها في هذا الميدان لعشرين عاماً... سراً. ويقول الإيرانيون إنهم اضطروا إلى إخفاء الأمر في ظروف الحصار، ولم يقتنع الآخرون بذلك. ولعلّ المشكلة العملية في ميزان القوى السياسي في الإدارتين الأميركية والإيرانية، الذي يغلب عليه التطرف حالياً، ولكن هذه مجرد صعوبة في الأداء والفاعلية واستثمار الوقت جيداً، وليست صعوبة جوهرية، فالأميركيون يفوّضون غالباً الأوروبيين بالتفاوض، مقتنعين أو مضطرين ومناورين. وإيران لم تفوّض روسيا ولا الصين، ولا حتى كوريا الشمالية «الخبيرة» في التقدم إلى الحد الأقصى، ثم التراجع، ولا نقول ليبيا! وأحياناً، تختلط المسألة شعبياً، وهذا طبيعي، فكيف تمتلك إسرائيل وباكستان والهند أسلحة نووية، ولا يحقّ لإيران ذلك؟! «خصوصاً من منظور المواجهة، الذي تنعكس فيه كجبهة إسلامية صلبة ورأس حربة في مواجهة المشروع الأميركي الصهيوني وأعوانه في المنطقة والعالم». وترد الوكالة الدولية بأن الدول المذكورة لم توقع على الاتفاقية، ومن ثم لم تخرقها، وهذا لا يعني أن الوكالة غير معنية بنزع أسلحة الدمار الشامل في المنطقة، لكن ذلك يتعلّق بمشاكل أكبر تعانيها المنطقة، ويمكن تسريع البحث فيها بالتوازي مع تغير هذه الظروف، وتعود هذه المسألة لتكبر مع التصريحات العقائدية الإيرانية حول وجود إسرائيل والقدرة على إنهائه. وهنا تتقدم مقولة انعدام الثقة إلى الواجهة من جديد، وتترافق التهديدات مع الإعلانات المتصاعدة عن الصواريخ بعيدة المدى أكثر فأكثر، الأمر الذي لا يقلق إسرائيل وحدها، بل كلّ الحريصين والمتمسكين بأمنها وسلامتها، فكيف إذا اقتربت هذه الصواريخ من المدى الذي يستطيع وصول المدن الأوروبية والقواعد الأميركية في أكثر من مكان، وغير مكان ضمناً! والمنطقة في حال يرثى لها في الأساس، «فكيف وصلت أنتِ من الزحام؟!» على قول المتنبي، فالمسألة الفلسطينية في مفصل مهم من مفاصلها العديدة، رغم الاعتراف المتزايد بضرورة قيام الدولة الفلسطينية، فأهلها يعانون الصراع الداخلي، ما بين تشبث السلطة بالسلطة وفسادها ورفض مراجعة أمورها، والقبول بتطوير مؤسساتها السياسية من طرف، ووصول حماسة «حماس» إلى ما وصلت إليه من انقلاب واعتماد على مبدأ القوة والعنف على حساب المبادئ المدنية الأخرى. وتستمد هناك حالة الفوضى والعجز والتهديد بالحرب الأهلية الداخلية شيئاً من وقود محركاتها من الملف النووي الإيراني، إضافة إلى ملفات أخرى أقرب، ولا ينفي هذا بالطبع مسؤولية الفلسطينيين الذين يجلبون الدببة إلى كرمهم، وعنبه مازال حصرماً! ومخزون التناقض السني-الشيعي الواسع الانتشار الذي يتصاعد ضغطه تدريجياً، مستمداً قوته من الأوضاع العراقية المضطربة ومن ظلال المسألة اللبنانية ومسائل غيرها، يمكن أن يغلي أكثر بتأثير الملف النووي الإيراني. ولا يطمئن أحد إلى التأثير الظاهري للإعلانات -مخلصة أم غير مخلصة، صحيحة أم غير صحيحة- بأن قوة إيران قوة للعرب والمسلمين جميعاً، وضمانة أفضل لتحصيل حقوقهم من فلسطين إلى الفلبين. فلعل الأمر يذهب إلى عكسه، ويهتدي أهل هذه الجهة في لبنان وفلسطين إلى خيارات حكيمة هادئة، وتنفتح إمكانات أكثر توفيقاً لحل ذلك الملف... مع أنه مجرد واحد من ملفات قد لا تُحل قريباً، ولا تُحال إلى الأرشيف! * كاتب سوري