الأبنودي يتذكّر ويروي حكايات البدايات 13: كتبت حوار الطوق والإسورة لكنني لا أفهم ما يقوله الممثلون بسبب أخطاء اللهجة! السينما في حياتي مجرّد مصادفة!

نشر في 27-09-2007 | 00:00
آخر تحديث 27-09-2007 | 00:00

هذه الحلقات ليست ثمرة حوار ممتد عبر عدة جلسات مع صديقي الشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودي، بل ثمرة حوارات طويلة، معظمها عفوي، كان خلالها «يبوح» وكنت «أحفظ». حوارات عفوية تطرق فيها إلى تفاصيل كثيرة ورسم معظم الملامح الأساسية في لوحة حياته فلما جاء وقت الحوارات المقصودة لم يكن علينا أن نبدأ البناء من أوله بل أن نستكمل بعض التفاصيل أو نضع لمسة هنا ولمسة هناك. ولا تحسبوها مهمة سهلة، إذ استدعى الأمر جلسات عديدة وساعات طويلة اقتنصتها من جدول الأبنودي المزدحم بين سفر وسفر، من شاطئ الخليج العربي إلى تونس ومن احتفالية فنية في قرطاج إلى مولد «سيدي عبد الرحيم» الشعبي في قنا، حتى أمكن في النهاية أن أجمع هذه الباقة من «حكايات البدايات» الأبنودية.

في البداية لم يبد الأبنودي متحمساً لموضوع الحوارات. قال: لم لا نحدد موضوعا أهم من «البدايات» للحوار حوله؟ قلت: وهل هناك أهم من البدايات؟ إن حياتك عبارة عن سلسلة متواصلة من البدايات، كأنك تولد كل يوم مرة أخرى، أول يوم في الحياة، أول يوم علم، أول يوم عمل، أول حب، أول وظيفة، أول قصيدة، أول أغنية، أول نجاح، أول إخفاق، أول ديوان، أول جائزة، أول سفر، أول لقاء مع عبد الحليم حافظ وغيره من «مجرة» النجوم التي عشت واحدا منها.

وافق الأبنودي على إجراء حوارات «استكمال أجزاء الصورة». وافق ربما لأننا صديقان، وربما من باب أن «الحياة تجارب»، أو لأي سبب آخر. المهم أنه وافق، مع احتفاظه بموقفه غير المتحمس. لكن «الحماسة» لم تتأخر كثيرا فمع أول سؤال وأول إجابة كان يتدفق كالشلال، كالنيل الذي كان يفيض هناك في أبنود قبل أن يكون هناك سد عالٍ. وليس عجيبا أن الأبنودي يذكر أيام الفيضان هذه بكل الود ويضعها في الموضع الذي يليق بها من تاريخ مصر. وفي الوقت نفسه يعتبر السد العالي «مشروعه» الذي يفاخر به فهو القارئ لتاريخ مصر ـ المكتوب وغير المكتوب ـ بعين محبة وقلب رؤوم والقادر على اكتشاف ما كان في كل حقبة من «فضيلة».

مع السؤال الأول والإجابة الأولى كان الأبنودي يتدفق حماسة واكتشف واكتشفت معه كم كانت مبهجة تلك البدايات التي راح يقص حكاياتها.

المراهق الذي وقف بعيداً عن مدرسته يراقب شادية وفاتن حمامة تصعدان درجها، هل كان يعرف أنه سيكتب لكل منهما ذات يوم سيناريو فيلم يشاهده الملايين من المحيط إلى الخليج؟

هل كان الأبنودي يتصور وهو يرى نجمتيه للمرة الأولى عام 1954 وأنه سيصبح في العقد التالي مباشرة، الستينات، شاعرا معروفا ثم كاتباً كبيراً وأنه سيضع السيناريو والحوار لفيلمين أصبحا من علامات السينما في مصر؟ هل كان يعرف أن إنجازه سيمتد إلى النص السينمائي بعد أن يترك بصمته المميزة على أغاني الأفلام وآخرها تلك الأغنية البديعة في فيلم «أوقات فراغ»؟

عبد الرحمن الأبنودي اسم اعتدنا ذكره مسبوقا بصفة الشاعر، مع أنه مبدع متعدد الوجوه، هو الشاعر - طبعاً - وهو أيضاً كاتب صحافي ودارس للتراث ومحقق له، لا باعتبار الباحث الذي جمع «السيرة الهلالية» وحفظها من الاندثار فحسب، لكن أيضاً نظراً الى المهمة التي يقوم بها حالياً لنفض الغبار عن جانب مجهول من تاريخ فن الزجل. وبين هذا وذاك فإنه يمتلك رؤية موثقة عن «ابن عروس» وما نسب إليه من رباعيات. ومن وجوه هذا المبدع التي تحتاج إلى مزيد من التعريف بها وجهه كاتباً درامياً، قدم أعمالاً للمسرح والسينما واضعاً سيناريو وحوار ثلاثة أفلام. ومع ذلك لا يعتبرها ولا يعتبر المسرح مهنة.

عن بداية رحلته مع السينما يتذكر الأبنودي: تجربتي السينمائية مجرّد مصادفة، مثل كثير من إبداعاتي، وصدق أو لا تصدق أن بدايتي التي كانت فيلماً يعدّ من علامات السينما المصرية هو «شيء من الخوف» كانت محض مصادفة!

صوتي في «البوسطجي»

يقول الأبنودي: «كنا مجموعة أصدقاء: حسين كمال مخرج الفيلم، وصلاح ذو الفقار منتجه، وبليغ حمدي واضع موسيقاه، والسيدة شادية بطلة الفيلم وكنت كتبت لها بعض الأغاني وكانت آنذاك زوجة صلاح ذو الفقار. كنت في عمل ما في استوديو نحاس، حين التقيت المخرج حسين كمال وهو يصرخ «أنت فين، أنا محتاج لك جداً». كنت قدمت عهدذاك «جوابات حراجي القط» في الراديو واكتشف الناس أن اللهجة الصعيدية التي يستمعون إليها في الدراما الإذاعية والتلفزيونية لا صلة بينها وبين لهجة - أو لهجات - أهل الصعيد الحقيقية ولا تعبر عن شخصية الصعيد. سحبني حسين كمال من يدي ليريني مشهداً كاملاً من فيلم «البوسطجي» للراحل يحيى حقي، ذاك المشهد الذي يفتح فيه شكري سرحان خطابات القرويين على بخار براد الشاي. وطلب مني حسين كمال أن أقرأ تلك بصوتي فقرأت خطاباً طويلاً من خطب «حراجي»، ثم مرنت عمّال الاستوديو ليكملوا قراءة خطابات أخرى كتبتها للمشهد إذ ليس من المعقول أن أقرأ الخطابات كلها بصوتي».

يضيف: «كان الفيلم التالي بالنسبة الى حسين كمال هو فيلم «شيء من الخوف - حكاية عتريس وفؤادة» ومن دون تفكير أرسل سيناريو الفيلم إليَّ، بعدما كان وزع الأدوار على الممثلين، كي أكتب الأغاني الملحمية التي حاولوا تكرارها كثيراً في أعمال أخرى بعد ذلك وظلت تجربتنا -بليغ حمدي وأنا - فريدة في هذا المجال».

فيلم في ثلاث ليالٍ!

يمضي الأبنودي متذكراً: «حين قرأت «شيء من الخوف» - الفيلم لا الرواية - قلت لنفسي: «يمكن هذه الأوراق أن تصبح تحفة سينمائية لو أعدت كتابة الحوار الذي كان الراحل صبري عزت كاتب السيناريو كتبه من قبل». هكذا لم أستشر أحداً وطفقت أكتب الفيلم من جديد. وفي الفيلم مشهد محوري يرتكز على فكرة أخذ التوكيل من العروس بواسطة أحد أقاربها أمام الشهود، ولما كان والدي مأذوناً شرعياً - كما ذكرت من قبل - فإن هذا الأمر كان موضوعاً يومياً في بيتنا، ما سهل علي مهمة كتابته. نقلت الحوار من لهجته البحراوية إلى اللهجة الصعيدية وأعدت صوغ الفيلم و«عشَّقت» الأغاني مع الحوار، كما كتبت تلك الجمل الحوارية التي صارت لها قوة «الشعار» وسطوة «اللازمة»، مثل «جواز عتريس من فؤاده باطل» التي تتردد كلما حانت مناسبة تستدعيها». يرفع الأبنودي يده كأنه يمسك كوب شاي فيها متذكراً - بإعجاب - جملته الحوارية في الفيلم «دم الدهاشنة في الكباية يا رجالة»! يقول: «في الميعاد المحدد ذهبت خائفاً من رد فعل حسين كمال على تلك الجريمة التي ارتكبتها من دون استشارة، وفتح حسين كمال جهاز التسجيل ليسجل الأغاني فوجدني أقرأ عليه الفيلم كاملاً ولم ينطق بكلمة حتى النهاية. كنت حذفت مشاهد عمل عليها ويصعب تغييرها فأضفت أخرى. مع ذلك استجاب استجابة كاملة لكل ما فعلت. للتو طبع نسخاً لكل الممثلين الكبار: محمود مرسي، شادية، محمد توفيق، يحيى شاهين، الى محمود ياسين الذي ظهر في السينما للمرة الأولى في هذا الفيلم. وما تراه اليوم على الشاشة هو تلك الأوراق التي انكببت عليها أربعة أيام وثلاث ليالٍ فحسب».

لم ينجح الفيلم كثيراً حين عرض في زمن النكسة. كان حزن الناس في حاجة إلى أفلام تزيل الهم، لكنه مع الوقت حصل على التقدير الجماهيري الواسع الذي يستحقه واعتمد علامة بارزة بين كلاسيكيات السينما المصرية. أما ملاحقة الرقابة للفيلم، بعدما قيل لجمال عبد الناصر إنه المقصود بشخصية عتريس وإن فؤادة رمز لمصر بينما ترمز العصابة الى أعوان عبد الناصر، فلذلك قصة يرويها الأبنودي:

جاءت كتابة سيناريو «شيء من الخوف» بعد وقت قصير من خروجي من المعتقل. ولأن تجربة الفيلم كانت فريدة همس من همس في أذن عبد الناصر وقال إن الفيلم يعنيه هو ومجلس قيادة الثورة فطلب الرئيس مشاهدة الفيلم بنفسه وبعد مشاهدته في عرض خاص قال جملته المشهورة «إذا كنت زي عتريس لها حق الناس تهاجمني» وأمر بأن يعرض الفيلم فوراً».

سيدة الشاشة في بيت جدي

أسأل الأبنودي: رغم أنها بداية مبشرة وقوية، لِمَ لم تواصل مسيرتك السينمائية؟

ويجيبني: «لم أعتبر السينما «مهنة» ولم أعتبرها إبداعاً يقلقني غيابه مثلما أقلق لو غاب عني الشعر. ظل الأمر خاضعاً لقانون المصادفة وبالمصادفة كتبت سيناريو «أغنية الموت»، فيلم من 50 دقيقة. كانت سيدة الشاشة العربية فاتن حمامة قررت إنجاز ثلاثة أفلام تستغرق وقت فيلم واحد، إذ كانت تجربة التلفزيون لفتت انتباهها بشدة وقررت أن تصنع أفلاماً قصيرة، فوقع اختيارها على كتاب «مسرح المجتمع» لأستاذنا توفيق الحكيم ويضم مسرحيات من فصل واحد. اختارت مسرحية «أغنية الموت» وفوجئتُ بالمخرج سعيد مرزوق يهاتفني قائلاً إن فاتن حمامة تريد رؤيتي. فزعت إذ لم أكن أعرف سعيد مرزوق إلا من خلال أفلامه - مثل «زوجتي والكلب» - وكانت أفلاماً تجريبية غامضة إلى حد ما ولم تحقق جماهيرية رغم قيمتها الفنية العالية. أما السيدة فاتن حمامة التي تربينا على أفلامها فلم أكن أتخيل أنها تعرفني أو تطلبني بالاسم، لكن في ما بعد اختارتني بسبب فيلم «شيء من الخوف». أصر حسين كمال على أن يضع اسمي على الحوار رغم طلبي إليه ألا يفعل ذلك خوفاً من حساسية الأمر بالنسبة الى صبري عزت كاتب السيناريو والحوار السابقين. التقيت فاتن حمامة في شقتها في عمارة ليبون على شاطئ النيل في الجزيرة وتباسطت معي إلى أبعد الحدود لتزيل إحساسي بالغربة. أدخلتني إلى حجرة ذات طراز عربي لا يختلف كثيراً عن بيتي وغمرتني بإعجابها. قالت: «إقرأ المسرحية واكتب السيناريو والحوار والأغنية. أريد نصاً كاملاً وسأقوم بدور «عساكر»». المنتج كان صلاح ذو الفقار مرة أخرى. وفي ثلاثة أيام كتبت نصاً سينمائياً كاملاً وأهم ما كتبته هو بناء الديكور على غرار بيت جدي الحاج قنديل الذي عشت فيه مع أمي فاطمة قنديل وجدتي «ست أبوها» في أبنود: الغرفة، السلم الطيني، السور المبني بأزيار الماء المقلوبة، بناني الحمام والحمام الذي يخرج منها ليتجول بين الممثلين. كانت المرة الأولى التي نرى فيها مشاهد كهذه في السينما المصرية تطابق الواقع ففي بيت ريفي تهش دجاجة أو تبعد حمامة طوال الوقت. كذلك وصفت الملابس والوشم على الوجوه وباب البيت ذا الضلفة الواحدة الذي يصدر عند فتحه وإغلاقه أنيناً يشبه أنين السواقي. أُخِذَت السيدة فاتن حمامة بهذا العالم الذي استحضرته على الورق وبتحويل المسرحية الذهنية إلى واقع من لحم ودم وأصرت على أن أذهب إلى بيتها لتدريبها وكنت حين أخجل تقول لي: «لا أحد معنا لتخجل منه، أريد أن أعرف ما كان سيحدث لو افترضنا أن أمك هي التي كانت ستواجه ما تواجهه «عساكر» وأنت هو ذلك الفتى الذي ذهب إلى القاهرة وتعلم في الأزهر وجاء ليرفض الأخذ بالثأر». فعلمتها كيف تخبط رأسها على السرير الجريد وكيف تضرب بطنها وتعاقبها على إنجابها ذلك الولد العاق، كأنه ما زال جنيناً في بطنها تريد إسقاطه. في الاستوديو كانت ترفض بدء التصوير إذا لم أكن موجوداً وأطلقوا عليَّ اسم «الخبير الأجنبي». كان ممكناً أن يكون حظ هذه التحفة الفنية الفريدة أفضل لو عرضت صبيحة عيد. فزع أهل المرح من القيادات وكتبت رئيسة التلفزيون آنذاك تأشيرة عجيبة نصها «كفانا كآبة» ولم تنتبه إلى أن «الكائب» هو أستاذنا توفيق الحكيم وأن البطلة هي سيدة الشاشة فاتن حمامة. مذاك لا يذاع هذا العمل إلا إذا استدعيته في إحدى سهراتي التلفزيونية لأقدم جزءاً منه وما زلت أحلم بأن يبث في وقت جماهيري مناسب وأعتقد أنه سيلاقي نجاحاً مماثلاً لنجاح «شيء من الخوف».

أخطاء اللهجة

عن فيلمه الثالث «الطوق والإسورة» يقول الأبنودي: «أخذ فيلم «الطوق والإسورة» عن رواية صديقنا الراحل يحيى الطاهر عبد الله ويعلم الجميع أنه عاش معي فترة طويلة في الصعيد وفي القاهرة. بعد رحيله والاتجاه نحو تحويل الرواية إلى فيلم سينمائي، كان لا بد من أن يفكر المخرج خيري بشارة في أن يعهد إليّ بكتابة الحوار، حيث إننا نقتسم العالم نفسه والتجارب عينها. بالفعل كتبت الفيلم، لكنني متحفظ دوماً إزاءه فلهجتنا في الصعيد تختلف من قرية إلى قرية - لا من مدينة إلى مدينة أو من محافظة إلى محافظة فحسب - والخطأ الأكبر في هذا الفيلم أن المخرج استعان ببعض فرق التمثيل في الأقصر لتحفظ الممثلين لهجة لم أكتبها ولم أفهمها حين قيلت. أعتقد أنه خطأ قلل كثيراً من نجاح الفيلم الذي كان ممكناً أن ينال شعبية كبيرة جداً».

يضيف الأبنودي: «هذه تجاربي في السينما، تجارب لم أسع إليها ولم أعتبرها «مهنة» وهي النظرة نفسها التي رأيت أعمالي المسرحية من خلالها إذ قدمت لمسرح العرائس «بعد التحية والسلام» وللمسرح القومي «جواز سبرتو» المقتبسة من «زواج فيغارو» لبومارشيه وليست تمصيراً لها. هكذا ترى أنني دائماً كنت أعمل. لا أنظر الى ما قدمته من قبل بل أتجه إلى ما أكتبه الآن. اعتقد أن أهم ما قدمته في الفترة الأخيرة هو الدواوين المسموعة إذ يشكل أدائي عنصراً مهماً في قصائدي، ولذا تباع دواويني الآن مقترنة بشرائط أو «سي دي» مسموع بصوتي.

شاعر.. ومسرحي.. من دون مسرح شعري!».

أسأل: مع أنك خضت تجربة الكتابة للمسرح ومع كل «الدراما» التي تحملها قصائدك وقدرتك على تجسيدها بصوتك أحد أسرار إلقائك العبقري لشعرك، مع هذا وذاك فإنك لم تكتب «المسرح الشعري» ولم «تزوج» دراما القصيدة لدراما النص المسرحي، لماذا؟

يجيبني الأبنودي: «ما منعني من الكتابة للمسرح هو احترامي الشديد لهذا الفن الذي هو - وبحق - «أبو الفنون». والمسرح فن عظيم وعلم من العلوم الكبرى - مثله مثل الهندسة وغيرها من ركائز العلم الإنساني - أنت لا تستطيع أن تقيم عمارة من دون معرفتك بأساسيات الهندسة وفهمها. عندما تحفر الأساس فإنك تعمل حساب الطبقة الثالثة أو الفصل الثالث في مسرحيتك. عليك أن تعرف موضوعها، شخوصها، حوادثها، وأن تحسب حساب كل كلمة وكل جملة بل وكل إيماءة لأن حوادث مهمة في مستقبل النص ستنبني عليها. ليس هناك في المسرح «كلام مجاني». أتحدث بالطبع عن المسرح الحقيقي لا تلك «الفودفيلات» والتهريجات والعبث الذي يمارس على المسارح العربية. إذاً، لا يمكن لشاعر تلقائي - مثلي - أن يصبح مهندساً فجأة. حين أنظر إلى مسرح الشعراء مثل صلاح عبد الصبور وعبد الرحمن الشرقاوي وفاروق جويدة أحس بأنهم يكتبون قصائد تحمل دراميتها في داخلها، لكنها في مجموعها لا تشكل بدناً مسرحياً في المعنى الحقيقي. رغم القيمة الفنية العالية لشعر عبد الصبور فإنك تستمع طوال الوقت إلى قصيدته لا إلى نص مسرحي مثل نصوص نعمان عاشور وألفريد فرج وسعد الدين وهبة وغيرهم. لذلك احترمت قدراتي ولم أكتب «المسرح الشعري». لكن ما قلته لا ينفي أن هناك شعراء عظاماً في العالم كتبوا مسرحاً مثل لوركا. قام المسرح أصلاً على الشعر، لكنني رجل لا أقفز فوق إمكاناتي كي لا أتهشم. لا أصنع إلا ما أستطيع أن أصنع».

قلت: «لكننا نجد في شعرك «مشاهد مسرحية» شبه مكتملة ودراما أصيلة مثل دواوين «جوابات حراجي» و«وجوه على الشط» و«الموت على الأسفلت» وقصائد: الأحزان العادية، الخواجه لامبو العجوز، كباية شاي، يامنة، إلخ. كلها أعمال تختزن إمكان «مسرحتها» في داخلها فلِمَ كل هذا «التهيب» من تجربة المسرح؟

يردّ الأبنودي: «تجد المعنى في شعري جزءاً من اللغة واللغة جزءاً من المعنى. عندك «جوابات حراجي» الذي اخترته مثلاً، إنه ديوان غارق في الدراما، لكنها دراما تصبح ساذجة ومضحكة جداً خارج النص الشعري، بغض النظر عن عبقرية المخرج أو المعد، دعنا نقف أمام مشهد مهم جداً هو مشهد وداع فاطمة لـحراجي في القطار نحو أسوان. يقول حراجي في خطابه:

«شهرين دلوقت

من يوم ما عنيكِ يا فاطنه

بلت شباك القطر

لسوعت بدمعك ضهر يديّ»

هذا المشهد كله «حس داخلي» ومجرد إخراجه إلى حيز التنفيذ أو تمثيله سوف يجعل الناس تضحك بدلاً من البكاء عندما أقرأ النص عليهم. حاولت ابنة الفنان نور الشريف أن تقدم هذا النص على مسرح الجامعة الأميركية في حفل كبير حضره والدها ولفيف من الفنانين والمثقفين. يعتقدون أنه نجح نجاحاً كبيراً، لكنك تعرف رأيي!

كذلك قصيدة «الخواجه لامبو العجوز مات في أسبانيا» وحاولوا مراراً تحويلها إلى فيلم سينمائي ولم ينجح أحد في ذلك فالمشاعر كلها التي كان يحملها «لامبو» أو قطته وكل ما قيل عن غيتاره يصبح شيئاً خارج النص حين نحوله إلى فيلم. هناك بيت بعد موت «لامبو» يقول:

قطته توطي

عشان دمعتها

ما تعملش ع الأسفلت صوت

فتخيل لو رأينا القطة في مشهد سينمائي وهي تحاول البكاء بلا صوت، يتحول المشهد إلى ميلودراما كاذبة، بعدما كان -داخل القصيدة - إحساساً إنسانياً مشرقاً.

ملخص القول: «القصيدة قصيدة، والمسرحية مسرحية، والسينما فن آخر يستطيع أن يتكئ على الرواية مثلاً، لكن من الصعب أن يقوم على قصيدة شديدة «الجوانية» مليئة بالأسرار والمشاعر الذاتية».

هكذا يأخذنا الأبنودي من الحديث عن السينما والمسرح إلى الحديث عن الشعر. المؤكد أن الشعر مركز براق في وجدانه ومدينة محورية تقود إليها كل الطرق. الشعر وأبنود كلمتان قلما تخلو جملة أبنودية من واحدة منهما. ولا شك في أن الشعر يمثل أهم حكاية من حكايات البدايات، لكن هناك حكاية أخرى تسبقها بحكم الترتيب الزمني. تقفز بنا طبيعة ترتيب هذه الحكايات بما يخل بالسياق من ناحية وأحاول من ناحية ثانية أن أعيد جواد السياق الجامح إلى هدوئه، لكن «كان غيري أشطر»! وفي أي حال تعالوا نتعرف أولا الى حكاية أول صداقة في الحلقة المقبلة.

ينام العالم العربي

ليلاتي.. زي ما بينام

بعواجيزه

بفتيانه

بأطفاله

بشبانه

قرا الجورنان

وملا سيارته بالبنزين

وشاف النشره بعد الضُهر

وقال في الإنتفاضه كلام

وحياها

وبعدين نام

نزل عمل «الشوبنج» الصبح

وفات على شركة الفيديو

وغيَّر شنطة الأفلام

لبس وقلع لبس وقلع

وليِّف نفسه في الحمام

وحط «الفوم»

وقام للنوم..

يكمل متعته أحلام

ونام العالم العربي

ليلاتي.. زي ما بينام

الأبنودي ـ الموت على اسفلت

مقطع 2

على كرسي ف قهوة ف شارع شبرا

قعدت

وجاب لي كباية شاي الجرسون

ـ كباية شاي القهوة..

.. غير كباية شاي البيت خالص ـ

بصيت له كتير

مش عارف ليه

من مده طويله ما شفتش حي

كان الشارع نابض فيه الدم المطفي.. وحي

مر عليا الراجل الاصلع خالص

والبنت اللي ف إيدها

طبق الفول الناقص خالص

والست اللابسه التوب اللسود خالص

مرت عربيه جديده

وفيها ناس وشها ساكت خالص

وولد بيكلم بنت على التلتوار

بالحس الواطي

وخايف خالص

وعلى التلتوار التاني

كان دكان فكهاني منظم خالص

وقعت سنجة تروماي (خمسه...)

طلع الولد ـ المتشعبط ـ ركبها

وركب من باب الترماي

قدام الكمساري

شافه.. ما كلمهوش خالص

عدى الراجل اللي ما نزلش من ع العجله

بقى له ست سنين

كان تعبان جدا

وموطي

ومش بيبدل خالص

أخد الجرسون قرشين بقشيش

بص لي جدا.. جدا

واستغرب خالص خالص خالص..!!

الأبنودي ـ كباية شاي ـ الزحمة

back to top